الأدب

قراءة تحليلية في قصيدة ' في حضرة الغياب'للأديب طه صلاح هيكل

كتب في : الأحد 27 فبراير 2022 - 9:24 مساءً بقلم : حنان فاروق العجمى

 

في حضرة الغياب

بخاطري

ذكريات تمر

مر السحاب

تهتدي حينا وتضل أحيانا تخبو تارة

ويضيء بعيني ذاك الشهاب

وفرحة تدوم وتختفي

وسفر طويل بلا إياب

وروح هامت تسلك

دروب الهجر عند الذهاب

كسفينة أقلعت بلا قائد

تمخر عباب البحر تصارع الصعاب

تشكو عتو الموج حتى

تاه

السبيل وعلا الماء فوق السحاب

وانساب الحنين في ركب

ضل الحادي وامتطى الضباب

وشدا بالحزن فأبكى شموع السراب

وارتدى الشوق معطف الرحيل

وسار خلف الماضي لايخشى العقاب

صمت الفؤاد على مضض

ورست سفينتي على شواطئ غضاب

طه هيكل

كلمات ليست كالكلمات

تجلى إحساس الشاعر فيها جاذبا القارئ باستخدام رائع للصور البيانية المركبة والاستعارات المكنية التي تطلب من القارئ أن يتعلم مهارة الغوص في أعماق البحار قبل أن يقرأ القصيدة التي هي بمثابة بناء متكامل يُعبِّر عن العاطفة السائدة للشاعر ومكنونات إحساسه الذي ينغمس بالكلمات ليُبحر بسفينته رافعًا أشرعتها مُتأهِّبًا لرحلته غير آبه بما سيكون أو ما كان في الماضي

بدأ الشاعر قصيدته بشبه الجملة

في حضرة الغياب

بداية تشعرك بالرهبة

لتترقب ماذا سيحدث

وتشخيص وتجسيد للغياب كحضور قوي من عالم آخر ليس كمثله حضور ، فيُذهب العقل ليُحلِّق بعيدًا فى ملكوت غيبي فيُفكِّر ملِيَّا كيف يكون اللقاء المحتوم وما هي عواقبه

وأثناء محاولة القارئ الإفاقة من تساؤلاته عن الحضور المُباغت لهذا الكائن المدعو الغياب

يأخذنا الشاعر في انتقالة تبدأ بحرف الجر الباء الذي يلتصق بكلمة خاطري "بخاطري" حيث يستدعي الشاعر برأسه أحداثًا قد حفرها الزمن بتلافيف عقله لا يمكن أن تُمحى مهما حدث إنها الذكرى التي يمر بها الإنسان ويَخُطُّها تاريخه الطويل

"ذكريات كمر السحاب"

يبدأ الشاعر تصوير مشهد قوي من مشاهد ذكرياته فيجعلك تشاهد فيلمًا سينمائيًّا على شاشة مُبهرة

وهنا شبه الذكريات التي تمر برأسه كإنسان يعبر أمامه بالسماء كمرور السحاب الذي يسير على نهج واحد ومنوال لا يتغير وهي صورة بيانية متراكبة جسد فيها الذكريات والسحاب وكأننا نشاهد أمامنا حلمًا يمر ببطء فيه ما فيه من أحداث ، السحاب فيه هو محطات الحياة بما فيها من يسير ما يلبث أن يخبو وطريق قد يضل الخطى أحيانا

ثم يعود ليهتدي وهنا تظهر عاطفة الشاعر وسعادته عندما ينشد الدرب الصحيح في تعبيره المستخدم

" ويضئ بعيني ذاك الشهاب" وهي استعارة مكنية صور فيه الشاعر عينه كالفضاء الذي يلمع فيه شهابًا

متأهبا للسعادة ولكن الحسرة تسيطر على المشهد فهي فرحة لا تبقى بل مُقدَّر لها الرحيل والاختفاء من عالمه

"فرحة تدوم وتختفي" تلمع وتبرق كالشهاب إذا رأيته عن قرب وإذا حلَّ الضباب أو تراكمت السحب

لا تستطيع رؤيته صورة بيانية مركبة تكاد تتوه المشاعر بين طياتها بمشهد لسحاب القدر يصاحب الذكريات بنزهة في فضاء رأس الشاعر تتأرجح بين الفرح تارة والحزن تارة أخرى والتيه الذي يسير فيه كصحراء لا تنتهي لا يعرف بدايتها ولا يعلم متى تنتهي ليعيش مر الهجر والفراق في سفر ورحلة اللاعودة الذي يعلن عن إقلاع سفينة الحياة دون ربان تعلو وتهبط وسط محيط عتي الأمواج وشدائد تمخر العظام روح تهيم على وجهها لاتستطيع الفرار من قدر محتوم حتى اختلط عليها الأمر فلم تعد تعلم أهي وسط أمواج البحر على قيد الحياة أم هي بعالم آخر بالسماء

اختلط وامتزج العالمين فلم تعد تستطيع التفرقة بين عالم الأحياء والأموات وعالم الأرواح المجهول فوق السحاب الذي طاله أمل أمواج البحر في العيش الهانئ والتخلص من ملح مياه الحياة ومرارة العيش

وهنا تعلن رحلة الشاعر التي سافرت فيها روحه داخل الذكريات عن الحنين للركون لحضن الأمان الذي كان بمثابة دابة يمتطيها الحنين صامتة لاتتحرك كصعوبة مرور الضباب فلا يرى المسافر الطريق ولكنه يستمر بدرب سفره الصعب خائفا من مجهول لا يعلمه

"سفر طويل بلا إياب"

رحلة تسير بلا عودة

"روح هامت تسلك دروب الهجر عند الذهاب"

وهنا استخدم الشاعر في تصويره للشعور الغالب عليه والمسيطر على عاطفته الذي هو الضياع واللاعودة

الاستعارة المكنية مرة أخرى في تشبيهه للروح التي لا يعلم ماهيتها إلا الله بالإنسان الذي يهيم على وجهه تائهًا

في الدروب إنها دروب الدنيا ومتاهاتها فقد قررت دنياه إظهار وجه الهجر والفراق له وكشَّرت عن أنياب الحزن

وقد جعل الشاعر للهجر طرقًا لابد أن يسلكها لا محالة فهو قدر مكتوب لا مهرب منه

ويعود مرة أخرى الشاعر ليتمخض بوحه عن تراكب فوق تراكب لصور فوق صور ومشاهد فوق مشاهد كمَن هو مُحترف بعمل المونتاج وصناعة المحتوى يضع تلك الصورة ويدمجها بهذا المشهد ويزينها بالعناوين والجمل المُنمَّقة والإضافات الإبداعية المحكمة المتسلسلة حيث استخدم "كسفينة أقلعت بلا قائد "

وهنا تشبيه للروح بالسفينة التي استعدت وقررت الإقلاع من الميناء

دون انتظار الرُّبان فهي تعرف طريقها جيدًا ولكنه استخدم كلمة "القائد" وللسفينة ربان وليس قائد

فالقائد يقود السيارة العربة القطار الدبابة أما القبطان والربان يقود السفينة وهو بمثابة حاكم السفينة يتخذ القرار وينفذه على عاتقه الخاص وبما تمليه عليه قواعد المهنة والشرف واليمين الذي أقسمه

الربان أو القبطان يمكن أن يستعين بمساعده ولكن الرأي النهائي له

أما القائد فهو ليس فقط مَن يقود المركبة بل يمكن أن يكون قائدًا يقود الحرب ولكنه يأخذ القرار بالحرب ويقوم بالتخطيط ويستعين بمعاونيه ومستشاريه كل في تخصصه لإنجاح خطة الهجوم واتباع استراتيجية تؤدي للنصر

مع مراعاة كافة وجوه الخطر والصعوبات التي يمكن تواجدها وكيفية التغلب عليها

كلمة القائد التي استخدمها الشاعر توحي بالحرب النفسية التي يعيشها وتعيشها الروح التي تسافر كسفينة

في محيط الحياة فالروح هي السفينة السائرة تواجه أمواج البحر العاتية وهي نفسها قائد الحرب النفسية التي تظهر بعاطفة الشاعر وتسيطر على بناء القصيدة

"تمخر عباب البحر"

السفينة التي هي الروح المسافرة لم تكتف بإعلان السفر ودق طبول الحرب النفسية القائمة داخل جسد القصيدة وبعقل الشاعر بل أقدمت بكل قوتها لتَشُق صدر وجسد البحر وتدفع الأمواج العاتية يمينًا ويسارًا

لتعبُر طريقًا تتعثر فيه بصخور الصعاب وتزداد الأمواج غطرسة وعلوًّا فيتوه الطريق ويحيد عن المسار الصحيح ويعلو الموج في ثورة عارمة كإعصار يعلو فوق السحاب وتشكو الروح أنينها وينساب الحنين كشلال يسير في قافلة حاديها يرتل آيات الحزن

"وانساب الحنين في ركب ضل الحادي وامتطى الضباب"

وتتراكب الصور الشعرية التي استخدمها الشاعر ببراعة

حيث سعى الحادي ليمتطي الضباب محاولًا السيطرة عليه لرؤية النور

"فأبكى شموع السراب "

كناية عن فقدان الطريق والمتاهة التي لا عودة منها

فكلما اقترب النور وفرحت الروح تنشد طريق العودة ما تلبث أن تنطفئ الشموع فهي أسيرة السراب

تلوح من بعيد كوميض وحينما تقترب الروح يختفي الوميض ويحيط بها اليأس

والنتيجة الطبيعية لهذا اليأس وزفرات الأنين هي بكاء شموع السراب حيث جعل الشاعر الشموع إنسان يبكي حاله ويتمثل هذا البكاء في انصهار جسد الشموع المستمر وذوبانه فهي تنير كوميض ضعيف لا فائدة منه لا يهدي لطريق السعادة ويظل جسد الشموع الضعيف ينصهر ببطء كمن تهب نفسها للموت لانتفاء فائدتها المرجوة

ويعود الشاعر ليصطحبنا في رحلة الروح واللاعودة ليصف الاشتياق والحنين للماضي الذي لا يمكن أن يقف الزمن عنده والحاضر الذي يرجوه ولا يستطيع الوصول إليه فتركن الروح للهدوء وتشعر بالرضا

"ارتدى الشوق معطف الرحيل "

كناية عن اليأس والرغبة في قتل مشاعر الحنين لإنهاء هذا الألم المميت

استعارة مكنية شبه فيها الشاعر الشوق بالإنسان الذي يرتدي رداء

وشبه الرحيل بالمعطف الذي يرتديه الشوق رغبةً في الاستسلام

"وسار خلف الماضي لايخشى العقاب"

عودة مرة أخرى لتراكب الصور

الفعل سار يسير في مسيرة

ونتساءل عن السائرين

نجد الشوق الذي قرر الرحيل يسير خلف الماضي في الركب السابق الذي صوره الشاعر وقد ضل فيه الحادي ينشد أغاني الحزن ويرثي الأمل الضائع كل هذه الصور استخدم الشاعر فيها التجسيد والتشخيص ليُعرب عن انتفاء أسباب الخوف واستعداده للعقاب

فهو الذي سيقتل بيده الحنين والشوق والماضي في حالة من حالات الاكتئاب تنتابه لا يأبه بشيء فقد ضل الطريق واختفى النور وعاش الهجر والحرمان وتحدى الصعاب والنتيجة ضياع فليقتلهم جميعًا دون ندم أو شعور بالحسرة

ولن يكون العقاب أسوأ مما عانته الروح من مر البقاء دون أمل في غد أفضل وسعادة منشودة

وهنا تسيطر عاطفة الاستسلام والحزن العميق الذي استل سيفه ليُخرس القلب رغمًا عنه

"صمت الفؤاد على مضض "

شبه الفؤاد بإنسان لا يقوى على الكلام صمت بالقوة لا يستطيع التعبير عن امتعاضه

وبنهاية القصيدة لم يترك لنا الشاعر أملًا صغيرًا لنتنفس الصعداء

بل الاستمرار في بكاء شموع السراب الذي لا يتوقف ونهاية الرحلة بوصول السفينة والتي هي الروح إلى نهاية المطاف وهي شواطئ غضاب

"ورست سفينتي على شواطئ غضاب "

وفيه تصريح وبوح عن الحزن العميق ومشاعر الغضب التي انتابت الشاعر واليأس من عودة الفؤاد لينبض موسيقى الحياة مرة أخرى وإعلان الروح عن انتهاء الرحلة وسط زوبعة من ثورة داخلية تفور ولا تهدأ تفتقد الماضي وأحلامه في غد جديد وتفتقد حاضرًا مستسلمًا

لا يريد تَذكُّر الماضي ويهدم سقف توقعاته ولا يتكهن بمستقبل رُبَّما يشعر فيه بتعويض يرضيه

انتهت قراءتي التحليلية لقصيدة الأديب والشاعر طه صلاح هيكل

قصيدة تتزاحم فيها الأحزان وتزج بالأمل في سجن النسيان وتنتهي بالغضب العارم

وتلك كانت رؤية شاعرنا في حضرة الغياب وغربة الروح عن موطنها ولون الحياة الرمادي الباهت والتأرجح بين السفر والبداية والعودة والغضب ووميض السراب وروح تمتطي الضباب

قدمت القراءة التحليلية

الأديبة والشاعرة

حنان فاروق العجمي

بداية الصفحة