أخبار عاجلة

مخاوف الجيش صنعت حركة يوليو.. ومخاوف الشعب حولتها إلى ثورة

كتب في : الاثنين 24 يوليو 2017 - 12:24 صباحاً بقلم : أيمن مطر

"أنا من الأحرار يا علي"، من عاش عمره صغيرا وكبر على أرض مصر يجاورني الخطي يفهم هذا الهتاف، رغم أنه لم يكن هتافًا في مظاهره في شارع، لكنها -هذه الجملة- هتفت بها أضلع الفنان المصري الصميم "كمال يس"، وهو يبوح بسره لابن الريس عبد الواحد، الضابط الذي رافقه رحلة عذابه في حب إنجي، لكن (يس) كانت مصر هي معشوقته وليست "إنجي"، فانضم لتنظيم الضباط الأحرار الذي نما وترعرع في قلب الجيش ليخرج منه ويحرر مصر ويغير شكلها منذ ٦٥ عاما.
 
هي حركة مباركة للتطهير، كما وصفها البيان الأول الذي صاغه الضابط جمال حماد، وقرأه على الأمة الضابط أنور السادات بصوته المميز، لكن بإمضاء اللواء أركان حرب محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة، ونذكر كلنا النداء الذكي في مطلعه: "بني وطني: اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم".
 
وسرد البيان ما برر به خروج الضباط على قياداتهم بأن هذه العوامل كان لها تأثير كبير على الجيش وتسببت في هزيمة حرب فلسطين. وأوضح أن الفساد استمر بعد الحرب وتحول إلى مؤامرة من الخونة على الجيش حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها.
 
ولخص: "وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم".
 
 وهي انقلاب قاده العسكر على الملك والحكم الشرعي، كما أحب أعداء ثورة يوليو آنذاك أن يلقبوها، وورث عنهم أعداء عبد الناصر وأعداء كل ما أنجزته ثورة يوليو للمصريين ورثوا عنهم هذا المسمى حتى اليوم، كأن الملك كان منتخبا انتخابا حرا مباشرا من الشعب وجاء للحكم بشكل ديموقراطي، ولم يرثه عن أجداده الأتراك الذين عينهم المحتل العثماني لحكم مصر.
 
لكنها ثورة بحكم الشعب الذي ضم خطواته بعشرات الملايين إلى خطوات مجموعة الضباط التي خرجت ليلة ٢٣ يوليو من ثكناتها تحمل أرواحها أمامها، "إما الوطن وإما الموت"، وكتب لهم النجاح وكان محسوبا في تقديراتهم تماما كالفشل، لكن الخلود لم يكن في حساباتهم، ولم يدر بخلد واحد منهم، أن تذكرهم بلادهم وأمتهم وتذكر ما فعلوه بعد أن يرحلوا ويتركوا مسرح الحياة بالكامل.
 
كانوا أربعة عشر ضابطا من خمسة أسلحة بالجيش في الصف الأول للتنظيم، الذين طلب القصر رؤوسهم قبل الثورة بساعات، أولها سلاح المشاة ومنه جاء جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ويوسف صديق ومحمد نجيب. ومن سلاح الطيران عبد المنعم عبد الرؤوف وعبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وجمال سالم. ومن سلاح المدفعية كمال الدين حسين وصلاح سالم.
 
أما سلاح الإشارة فكان منه محمد أنور السادات وأمين شاكر، ثم من سلاح المدرعات حسين الشافعي وخالد محيي الدين، وهو الوحيد الذي على قيد الحياة من الأحرار، أطال الله عمره.
 
 وبعد ٦٥ عاما من الثورة ما زالت ولا يزال زعيمها جمال عبد الناصر حيا لم يمت، كلما هبت نسائم يوليو الساخنة كل عام تلف أرواح المصريين بذكرى لا تزال عبقة لفترة مجيدة عاشتها أجيال ما بعد الخمسينيات والستينيات من أقاصيص الأب والأم عن الزعيم الكاريزمي أو من حكاوى الجد والجدة عن حقوق استردت، ثم ذلك الموروث الضخم من الأعمال الفنية حتى تلك التي هاجمت الثورة آنذاك تستطيع أن ترى اليوم بشكل أوضح مدى شططها وبعدها عن النقد السليم واستهداف شخوصها وعلى رأسهم الزعيم عبد الناصر الذي تحول آنذاك إسقاطه الممر الوحيد لإسقاط الثورة ليس في مصر وحسب، ولكن في سائر البلدان التي تأثرت بها، وهبت تطالب بحقوقها في الاستقلال والحرية وامتلاك الإرادة والسيادة على أراضيها.
 
حال الجيش المتردي كما أبرزه البيان ومخاوف تحول مصر إلى بلد بلا جيش يحميها كانت -وما زالت- الهاجس الذي يوجع أي ضابط بالجيش المصري ويدفعه للتحرك، ليس مع أو ضد قيادات أو حكام، ولكن مع مصلحة البلد والشعب.
 
هزيمة حرب فلسطين كانت وجعا للعسكريين عادوا منه ليجدوا بلدهم تمزقه الصراعات السياسية وحياة سياسية فاسدة، ومن فوقهم إدارة فاسدة للقصر والحاشية، وفي الخلفية تظلل البلاد مظلة الاحتلال البريطاني السوداء.  
 
فمنذ الاحتلال البريطاني ١٨٨٢ تم إقصاء الجيش عن الحياة السياسية بنفي عرابي ورفاقه، حتى عاد الحيش للاقتراب منها في أواخر الثلاثينيات عندما نظم الضباط أنفسهم في لقاءات سرية هدفها تحقيق ما فشلت فيه الأحزاب السياسية ومعاركها التي عطلت حصول مصر على استقلالها، وكان الضابط جمال عبد الناصر واحدا من هؤلاء الضباط الذين سرعان ما دخلوا في مواجهة مع الملك فاروق بعد هزيمة حرب فلسطين، والتي حملوه مسئولية هزيمة الجيش بصفقات السلاح الفاسد، فتكتلوا خلف اللواء محمد نجيب في انتخابات نادي الضباط وأسقطوا حسين سري مرشح الملك.
 
انقلاب الجيش كما حدث كان إذن تحركا مشروعا من فئة استقر في عقيدتها أن سرطان السياسة الذي أفسد البلاد يتمدد ليفسد المؤسسة العسكرية، والمجتمعات تتحمل فساد السياسة وتعالجه وتدخل في معارك معه من أجل التقدم والرفاهية والتنمية، لكن الأمم لا تتحمل فساد الجيوش، لأن ذلك يعني حتما سقوطها ونهايتها.. فأمة بلا سيف ودرع هي فريسة سهلة ومستباحة لمن يملك القوة -أي قوة- ولا تقوم ولا تستقيم لها قائمة، بل ويُمحى تاريخها إن كان لها تاريخ.
 
تحول الانقلاب العسكري إلى ثورة مجيدة كان على أيدي المصريين وليس الضباط الأحرار بعد أن ترسخ في عقيدتهم نفس دوافع الأحرار من خوف على بلادهم وامتلأوا رغبة في التغيير أملا في مستقبل أفضل، الخوف على البلاد إذا أصبحت بلا جيش حرك الضباط، والرغبة في مستقبل أفضل لمصر والخوف عليها حرك المصريين ليقفوا وراء الجيش وحركته، فتحولت إلى ثورة شعبية اصطف خلفها الملايين جيلا بعد جيل حتى اليوم.
 
 وعندما نزل ٣٠ مليونا للشوارع في يونيو ٢٠١٣ واستدعوا الجيش للنزول لم يجدوا سوى صورة الزعيم جمال عبد الناصر يرفعونها بالشوارع والميادين، في رسالة تحمل معنى مشابها لما حدث بعد ١٩٥٢، "المصريون يخافون على مصر بلدهم والجيش هو الحائط والمدد في خوفهم"، ووصلت الرسالة وهبَّ الجيش من أجل مصر ومن أجل شعبها.  
 
قيمة جديدة يكشف عنها الزمن: قنوات التواصل والعلاقة بين شعب مصر وجيشها سر خاص يضرب بجذوره مع أسرار هذه الأمة التي دوّن بعضها على جدران معابده، واحتفظ ببعضها سرا يرثه جيلاً بعد جيل، لأنه ربما كان في جينات المصريين التي خلقهم الله بها ولن يستطيع مخلوق أو قوة أن يغير إرادة الله.

 

بداية الصفحة