كتاب وآراء
ذكريات لا يَطُولها النّسيان من أيّام الطفولة والشباب في تطوان.

هذا المقال قبسات من ذكرياتٍ، ومُعايشات وأحداث لا يطولها النٌِسيان قابعة في ثبج الذاكرة الواهنة التي ما فتئت تُصارع تحاتّ الزّمن وانسيابه، وتتحدّى تقلّبات الدّهر ونوائبه، مُستخرجة ومُستوحاة من طفولتي البعيدة في مدينة تطوان الفيحاء معشوقتي (شمال المنلكة المغربية) بنت لمدينة الحمراء غرناطة، إنها المدينة التي تُنعت عن كلِّ جدارةٍ، وأهليةٍ، واستحقاق باسم “الحمامة البيضاء” نظراً لنصاعة مبانيها الأندلسيّة الجميلة وبياضِ قُلوب أهلها وقاطنيها وساكنيها الأكرمين. تطوان.. الحَمَامَة البيضاء قنطرة الحضارات. عن هذه المدينة يقول الفقيه التطواني مفضّل بن محمد أفيلال المُتوفىّ سنة 1886 رحمه الله، وهو من الأدباء اللاّمعين، والكتّاب البارزين في عصره، قال: تطوانُ ما كنــــــتِ إلاّ / بين البلاد حَمَامـَه بل كنتِ روضاً بهيــجاً / زهرُه أبدىَ ابتسامَـه أو كمُحّيَا عـَــــــرُوسٍ/ علاه في الخدِّ شامَه فُقتِ بهاءً وحُســْـــناً / فاساً ومصرَ وشامـَـه رماكِ بالعينِ دهـــــرٌ / ولا كزرقا اليمامَــه ويُقال إنّ هذا العالم الجليل كان أوّلَ من أطلق على مدينة تطّاون (الحمامة البيضاء)، علماً بأنّ هذا الإسم ورد كذلك فى صدر رواية الكاتب الإسباني الكبير ”بينيتُو بيريث غالدُوس” (1843-1920) “عايطة تطّاون” حيث يقول: “إنّ هذه المدينة الآمنة كانت تتراءى من بعيد للجنود الإسبان الذين قدِموا مع الجنرال الإسباني “ليوبولدو أودُونيل” فى حملتهم العسكرية الضّروس عليها عام 1860 (كالحمامة البيضاء) التي سوف تلطّخ قريباً بالدماء”. النشيد القومي العربي "بلاد العُرب أوطاني"! هذه المدينة الفيحاء التي قيّض الله لي أن أرى فيها النّورَ، كانت دائماً تذكّرني بطرفة جميلة واقعيّة جرت بين الموسيقار محمد عبد الوهّاب، والشّاعر السّوري فخري بارودي، إذ يُحكى أنّ كلاًّ منهما التقيا ذاتَ مرّةٍ فى حفل إستقبال دبلوماسيّ بدمشق حيث كان المطرب المصري الكبير المجدّد فى زيارة لسوريا، وكان قد بدأ يتألق نجمُه فى سماء الشّهرة، والمجد فى العالم العربي، وكانت أغانيه الرّائعة تصدح فى كلّ مكان، وتُحقّق نجاحاتٍ منقطعة النظير… وصار الشاعر فخري البارودي يتحيّن الفرصة خلال هذا الحفل حتى أمكنه أن يدنو منه ويتبادل معه أطرافَ الحديث، وفى لحظة مّا قال له فخري البارودي: – أستاذ عبد الوهّاب عندي قصيدة أحببتُ أن أسمعكَ إيّاها لعلّك تُلحّنها إذا راقتك..؟ فقال له: – لا بأس هل هي معك الآن..؟ فقال البارودي: نعم، فردّ عبد الوهاب: – أَسْمِعْنِي إيّاها إذن . فأخرج البارودي ورقةً صغيرةً من جيب سترته، وبدأ يقرأ على مسامع الموسيقار النابغة بتؤدةٍ وتأنٍّ قصيدته “بلاد العُرب أوطاني” (التي لم تكن قد اشتهرت بعد)، وصار يقول بصوتٍ حماسيّ وجهُوريّ: بِلادُ العُربِ أوْطانيِ / مِنَ الشَّـامِ لِبَغْدَانِ ومن نَجْدٍ إِلىَ يَمَـنٍ / إِلىَ مِصْـرَ فَتِطْوَانِ عندئذ قاطعه عبد الوهّاب وقال له: يا فخري بك.. بَسْ مِينْ قال لحضرتك أنّي مُلحِّن جغرافيا ! وفي زمننا هذا لحنها وأبدع في ادائها القيصر كاظم الساهر وتغنى بها الوطن العربي العريض. هذه المدينة ذات الطابع الاندلسي الموريسكي لا تبرَحُ العقلَ، والقلبَ، والذاكرةَ، والوجدان..فى عزّ طفولتي النائية كثيراً ما كُنت أرتاد وأتردّدُ على “سينما المنصور” هذا الحي الذي ولدتُ فيه دارنا كانت قُرب دار عزيمان وأمام مكتبة الأستاذ المؤرخ المرحوم داود وكانت معروفة بغرسة الفقيه المجاهد والسينما (من بناء عائلة آل زِيوْزِيوْ الكرام) وهي السينما الوحيدة التي كانت بالمدينة مُتخصّصة فى عرض الأفلام العربية، المصرية منها على وجه التحديد، أواخر الستينات من القرن الماضي وأنا لمّا أزلْ طفلاً صغيراً غرّيراً، طريَّ العود، غضَّ الإهاب، فى شرخ الصّبا وريعانه حيث كنت ما زلتُ أتابع دراستي فى “مدرسة مولاي إسماعيل ” الابتدائية الكائنة في المنحدر المقابل لباب العقلة، وفي هذه المرحلة العُمرية تعرفتُ على الأصدقاء الدكتور رضوان السعيدي والسفير المغربي بإطاليا يوسف بلة ومحمد بنزينة وزويحل محمد وخالد أقنين رحمه الله والقائمة طويلة وجمعنا حُب أبو الفنون المسرح وانضممنا إلى جمعية الجيل الصاعد لنتعلم مباديء المسرح كانت اياماً جميلةً ورائعةً ونحن صغار تعرفنا على مسرح البدوي، واشتركنا في دار الشباب بالمدينة العتيقة التي كان يديرها زين العابدين الريسوني وبهذه المؤسسة تعرفنا على شخصية مسرحية مُميزة الأستاذ المرحوم الدحروش وايضاً تعرفنا على الصديق الكاتب المسرحي رضوان حدادو وكانت أيام المسرح بامتياز وكُنا نقدم المسرحيات على خشبة مسرح قاعة الزرقطوني التابعة لوزارة الشبيبة والرياضة ونحن صغار وكانت قضيتنا الأولى هي فلسطين،وأغلب المسرحيات كانت على فلسطين الجريحة وكُنا نعرضُها على خشبة بساحة ثانوية الشريف الإدريسي بتطوان بمناسبة عيد العرش المجيد الذي كان يُقام يوم 03 مارس في عهد الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه. ويُقال بخصوص إطلاق اسم (سينما المنصور) على هذه القاعة السينمائية أنه إذا كانت قاعة سينما حيّ باريّو مالقة Barrio Málaga التي بناها أحد رجال الأعمال المغاربة اليهود التطوانيين يوم 22 ماي 1948، وأُطلق عليها اسم فيكتوريتا “Victoria” بمعنى (النّصر) تخليداً لذكرى تأسيس إسرائيل في 14 ماي 1948، فإنّ بناة سينما “المنصُور” عام 1952، أطلقوا عليها هذا الاسم تيمّناً بنُصرة الشّعب الفلسطيني الشقيق، ممّا يدلّ الدّلالة القاطعة على تعاطفهم مع إخوانهم الفلسطينييّن والتعبير عن ارتباطهم بهم”. هذا الوفاء الخالد بين الشعب المغربي والقضية الفلسطينية وحتى لا ننسى الفدائي التطواني الشهيد الحُسين بنيحي الطنجاوي شقيق الراحل الشاعر محمد بنيحي الطنجاوي الذي مات شهيداً في فلسطين سنة 1974 ودُفن بلبنان. وكما لا ننسى سيدة من تطوان كانت تُدعم الشعب الفلسطيني وترسل لهم المساعدات وهي الراحلة للا فاطمة