كتاب وآراء

المشردين في عصر السيسي

كتب في : السبت 02 فبراير 2019 - 11:43 مساءً بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيرى المحامي

من المعروف أن التشرد ظاهرة سلبية قديمة قدم تاريخ البشرية .. وتعد إحدى الظواهر العالمية التي لم تسلم منها أية دولة ، وإن كانت بنسب متفاوتة .. ويعود انتشارها في أصقاع الدنيا بهذه الكثافة لأسباب عديدة مختلفة .. لعل أبرزها على الإطلاق الحروب الأهلية ، والكوارث الطبيعية ، والتفكك الأسري ، وتردي الأوضاع الاقتصادية .... هكذا تعددت أسبابها ، وتفاوتت أعدادها ، فاختلفت أساليب معالجتها من دولة لأخرى .. لكن في مصر يعتبر محمد على باشا الذي حكم البلاد من 1805 م حتى 1848م هو صاحب المبادرة الأولى للقضاء على هذه الظاهرة المدمرة ، وذلك بعدما ازدادت أعدادها في عهده حتى بلغت أكثر من 300000 مشرد من أصل أربعة ملايين نسمة هي التعداد الكلي للمصريين في تلك الحقبة الغابرة .. وأصبحت هذه الظاهرة تمثل خطرا حقيقيا يهدد أمن البلاد والعباد بعدما تجاوزت بعدها الإنساني ، وتحولت إلى مظهر غير حضاري يقوض جهود محمد على الذي كان يتطلع – بعدما اكتشف عبقرية المصريين – إلى تحويل مصر من مجرد ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية البغيضة إلى دولة حديثة مستقلة .. وبالفعل تحقق حلمه بالإصرار والعمل والمثابرة . 
لذلك أمر محمد على باشا باللقاء القبض على جميع المشردين ، واعتقلهم لمدة ثلاثة سنوات في معسكر أقامه خصيصا في الصحراء بالقرب من مبني الكلية الحربية في محافظة أسوان ، وأوكل أمرهم كله إلى الجيش المصري العظيم الذي أدى واجبه نحوهم على أكمل وجه .. حيث قدمت القوات المسلحة الباسلة ما يكفي من الغذاء والكساء والدواء لإقامة حياة كريمة .. كما وفرت المعدات والمواد والأدوات اللازمة لتشغيل ورش عمل مختلفة .. ثم عكف رجالها الأبطال على تعليم أولئك المشردين وتدريبهم بمنتهى الانضباط والحزم والشدة .... حتى حولوهم جميعا بلا استثناء إلى مواطنين مصريين أسوياء وخرجوا منهم أمهر الحرفيين في شتى الحرف اليدوية وكافة المهن التقليدية .. حينئذ قرر محمد على الاحتفاظ بالنابغين منهم .. وبنى بأياديهم الفتية ، وعقولهم الذكية صروح مؤسسات مصر الحديثة التي ما تزال شامخة أمام أعيننا حتى يومنا هذا .. ثم أرسل البقية كخبراء إلى الدول الأخرى التي كانت تفتقر إلى مثل تلك الخبرات النادرة .. الملاحظ هنا أن أبناء القوات المسلحة الباسلة ما وضعوا أياديهم الطاهرة في شأن من الشئون العامة إلا حولوه من خرابة إلى جنة . 
وكي نميز بين الخبيث والطيب ، ونعرف الفروق الجوهرية بين الشرفاء والحرامية .. يجب علينا ألا ننسى شعار (عصر الطهارة) الذي رفعه الرئيس المخلوع فور توليه السلطة ، وظل يردد في خطبه الجوفاء جملته الشهيرة (نحن لا نتستر على فساد) ثم فوجئنا بعد ثورة 25 يناير الخالدة بعدما ظهرت السوءات ، وسقطت الأقنعة .... بأن الرئيس المخلوع كان طوال ثلاثين عاما يتزعم عصابة محترفة لنهب الأموال العامة .. ونتيجة لجرائم السرقة المنظمة التي ارتكبها هو وأسرته ، وأركان حكمه الفاسد ، وعناصر حزبه اللاوطني المنحل البائد .. تراجع في عهده دور الدولة ، وغاب تماما دور الأسرة .. فتفشت الظواهر السلبية في ربوع الدولة من أقصاها إلى أقصاها .... كأطفال الشوارع ، والأمراض المزمنة ، والمناطق العشوائية ، والأغذية المسرطنة . 
هنا تكمن المفارقة الحقيقية بين الرئيس عبدالفتاح السيسي .. ومن سبقوه من رؤساء الجمهورية اللهم باستثناء الزعيم الخالد ناصر الغلابة .. فلا يمكن لأحد أن ينكر – حتى لو أراد – أن الرجل يحقق الإنجازات ، ودائما وأبدا ما يسلط الأضواء على السلبيات ، ويعرضها للدراسة في المراكز البحثية ، ويطرحها للمناقشة في المؤتمرات الشعبية ، ثم يضعها على جداول الأعمال في الاجتماعات .. نحن بلا أدنى مبالغة نعيش عصرا جديدا مختلفا اختلافا جذريا عن جميع العصور السابقة .. نحن في عصر رئيس جمهورية يدير الشئون العامة للبلاد بمنتهى الإخلاص والشفافية .. ويحارب الفساد بكل ما أتي من قوة .. ويحاكم كبار المتورطين فيه وهم على قمة هرم السلطة .. ويصدر القرارات المصيرية بلا شعارات براقة .. ويبني المشروعات القومية دون وعود سابقة . 
وبناء على ما سبق لا يمكن لمواطن مصري حر أصيل من المتابعين للشأن العام ، المهمومين بقضايا الأوطان ، الذين آمنوا قبل الثورتين الشعبيتين الخالدتين وبعدهما بعدالة قضية أبناء الطبقات الدنيا ، ودافعوا عنها باستماته – وما يزالون – تارة ببذل المال ، وتارة أخرى بإبداء الرأي وتقديم الحلول والأفكار .... إلا أن يعترف بأن قرار الرئيس عبدالفتاح السيسي بإيواء المشردين أثلج قلوب الغالبية العظمى من المصريين ، وأراح نفوسهم ، ومنحهم أملا كبيرا في مستقبل أفضل .. لذلك لو وضعنا جميع الإنجازات التي حققها الرئيس منذ توليه السلطة التي يستفيد منها أبناء الطبقة الفقيرة في كفة .. بدءا من تشغيل المصانع التي أغلقت أبوابها عقب الثورة ، مرورا بعمليات الإحلال المتواصلة للمناطق العشوائية الأكثر خطورة ، وصولا إلى توفير السلع الغذائية في منافذ البيع التابعة للحكومة ، وانتهاء بإقامة ملايين الوحدات السكنية محدودة التكلفة بأسعار مناسبة .. أقول لو أننا وضعنا هذه الإنجازات العظيمة في كفة .... ووضعنا الأمر المباشر الذي أصدره الرئيس السيسي بإيواء المصريين الذين لا مأوى لهم لوحده في كفة لربحت كفة إيواء المشردين بلا أدنى مبالغة .. بل أكثر من ذلك يعتبر القضاء على ظاهرة المشردين في مصر عملا بطوليا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى .. بعدما تحولت هذه الظاهرة من مظهر غير حضاري في عهد محمد علي .. إلى مخزون استراتيجي للأنشطة الإجرامية التي تمارسها التشكيلات الخارجة على القانون كالبلطجية ، وتجار المخدرات ، والجماعات الإرهابية ، وعصابات الإتجار بالأعضاء البشرية في وقتنا الحالي . 
لذلك لنا حول هذا الأمر ملاحظتان في غاية الأهمية .. الملاحظة الأولي منهما : أننا اكتشفنا أن الدولة قادرة على صنع المعجزات في أوقات قياسية ، بالرغم من صعوبة ظروفها الاقتصادية ، على العكس تماما مما كنا نتصور على مدى العقود الماضية !! .. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو لماذا غضت الدولة طرفها على مر العصور السابقة عن هذه المشكلة المزمنة وتركتها تتمدد طوال هذه العقود حتى تضخمت بهذه الصورة المؤسفة ؟! .. أما الملاحظة الثانية : فهي أن الرئيس السيسي يسير على خطى محمد علي .. لكنه يعمل منفردا بينما هناك بعض المؤسسات العامة (نايمة على ودانها) .. ذلك لأن القائمين على هذه المؤسسات من وزراء ومحافظين أجلاء يفتقدون إلى روح المبادرة وليس لديهم رؤية أو خيال أو إضافة .. ليس هذا فحسب بل ينتهجون سياسة الروتين والتعقيد والعرقلة .. وليس أدل على هذه السياسة المتخلفة التي تتبناها هذه المؤسسات في إدارتها للشئون العامة من موقف وزارة التضامن من التجربة الشبابية التي حدثت عقب ثورة 25 يناير 2011 م الشعبية الخالدة عندما قامت مجموعة من الشباب الواعي المستنير بإطلاق مبادرة إنسانية غير مسبوقة تهدف إلى إيواء المشردين بالجهود الذاتية وتطبيقا لتلك المبادرة على أرض الواقع بدأ أولئك الشباب يجوبون الحواري والأزقة والشوارع والميادين لإنقاذ المشردين وتعاملوا بالفعل مع عدد كبير من الحالات المستهدفة لكن وزارة التضامن أحبطت تلك المبادرة بتصريحاتها الإعلامية غير المسئولة ، ولم تكتف الوزارة بتصريحاتها الرافضة لتقنين أوضاع المبادرة وإصرارها الغريب المريب على عدم الموافقة على التراخيص اللازمة لإنشائها بل أمطرت الشباب القائم عليها بوابل من الاتهامات المغلفة بالتشكيك والتشويه والتخوين وكأنها أرادت أن تسجل موقفا لا أن تقيم حالة .. لكن العجيب في الأمر أن هذه الوزارة لا تكف عن مطالبة المجتمع بأهمية تضافر الجهود ، وضرورة تقديم يد المساعدة .. والأعجب أن أولى المهام الأساسية المكلفة بها هي رفع المعاناة عن كاهل المعدمين والمهمشين والفقراء . 
أما السلبية التي تنتهجها – للأسف – بعض مؤسسات الدولة فليس هناك دليلا حيا عليها أكثر وضوحا ومشاهدة من تصريحات بعض الوزراء والمحافظين الأجلاء بمناسبة وبلا مناسبة .. وخير مثال على ذلك تصريح محافظ إحدى محافظات الدلتا الذي أدلى به في مطلع السنة الجديدة .. عقب وفاة مواطنة مصرية فقيرة من شدة البرد ، أمام مبنى أحد الأحياء التابعة لتلك المحافظة .. والذي قال فيه حرفيا : (إن المواطنة التي ماتت متجمدة من شدة البرد لم تطلب منا أية مساعدة) !! .. لكن لو أمعنا النظر قليلا في صورة المحافظ المنشورة مع تصريحاته غير المسئولة عبر الوسائل الإعلامية المرئية والمقروءة .. لاكتشفنا جميعا بمنتهى السهولة الأسباب الحقيقية التي أوصلتنا إلي هذه الحالة المذرية على مختلف الأصعدة على مر العصور السابقة ... لذلك إذا أردنا إصلاحا حقيقيا يجب علينا إعادة النظر في أمور عدة أولها الشروط الواجب توافرها في اختيار القيادات السياسية على أن يكون على رأس هذه الشروط ضرورة أن تتمتع القيادة في أية مؤسسة في الدولة بإحساس عالي بالناس الغلابة الذين يمثلون الأغلبية الساحقة المسحوقة ، وأن تكون القيادة على دراية تامة بظروفهم الحياتية ، وأحوالهم المعيشية ، وعلى استعداد كامل لتلبية احتياجاتهم الضرورية ... وليكن الرئيس عبدالفتاح السيسي قدوتها الحسنة ومثلها الأعلى في خدمة هذه الطبقات المنسية .. وليكن الأمر الرئاسي بإيواء المشردين نقطة الانطلاق الأولى في معركة البناء والإصلاح والتعمير على مستوى الجمهورية .

بداية الصفحة