كتاب وآراء

الفاسد لا يلد إلا فاسدا مفسدا

كتب في : الخميس 26 سبتمبر 2019 - 8:54 مساءً بقلم : الدكتور حسين مبرك

يخطئ من يتصور أنً الفساد الذي ضرب الجزائر لسنوات طوال ، يمكن إصلاحه في وقت قياسي ، من خلال اتًخاذ جملة من الإجراءات والتدابير بصفة استعجالية ، تستهدف فتح ملفات الفساد ، والقيام بمتابعة فورية متسرًعة للفاسدين ، بالنظر إلى أنً حجم الفساد الذي عصف بالبلاد ، كان واسعا وشاملا  وعميقا ، بل هو من العمق والخطورة مايجعله مهولا وصادما ومروًعا ، ذلك أنً الدًاء قد سرى في أوصال المجتمع ، وتسرب إلى مفاصل الدًولة ، وأنهك أجهزتها ، ونخر دواليبها ، فأضعف مؤسساتها ، واستنزف طاقاتها وقدراتها ، وأوهى قواها وإمكاناتها ، ونال من فتوًتها وحيويتها ، لأنً قوًة أيًة أمًة تكمن في قوًة مؤسساتها  وأجهزتها التي يفترض فيها أنًها وجدت لتصريف شؤونها وتدبير حاجاتها ومطالبها ، والقيام على مصالحها ، وتأمين حقوق الفرد والجماعة ، والحرص على نهضتهم ورقيهم وتقدمهم في شتى مجالات الحياة ومناحي العيش .

ولعلً الفساد الذي جثم على صدورنا لعقود ، قد تغلغل في كل المواقع ، ونخر كلً شيئ في طريقه ، حتى تجذر وتأصًل ، وبات مقنًنا ، نعيش أطواره وآثاره ، ونتعايش مع أضراره ومخاطره ، وصرنا نكيًف أنفسنا وفق منحنياته ومسالكه ومساربه ،واتًجاهاته ، حتى غدا قوة ضاربة في أيدي أفراد وتكتلات ، شكًلت كانتونات ولوبيات ضاغطة نافذة ،تجمعها المصالح والمناصب والمكاسب ، التي عادت عليهم بالثراء الفاحش الطائل ،الأمر الذي أتاح لهم أسباب القوة والبطش ، ومكًنهم من الإمساك بمراكز القرار ، والاستحواذ على مصادر الثروة ، ومقاليد الحكم والتسيير والتأثير، واتًخذوا لأنفسهم في كلً موقع ، وعلى كل مستوى أذرعا أخطبوطية ، وعلاقات أشبه بالشيكة العنكبوتية ،وأحاطوا أنفسهم بجيوش من المرتزقة والمبتزين والانتهازيين والمارقين المندسين ، المتحللين من كل قيد أو قيمة، أو قوة ، من شأنها أن تضيًق نطاقهم ، أو تحدً من مصالحهم ، وسلاحهم في ذلك لمواجهة أي قوى، أخرى معادية أو معارضة أو مختلفة ، هو قانون القوة ، لا قوة القانون ،وهذه القوة لها رؤوس ورموز ظاهرة ، مثلما لها امتدادات  ومخالب وواجهات متسترة ، وسافرة ، لكنها في كل الأحوال نشطة ، وهي التي تدير وتقرر وتنظر ، وتبرر وتنفذ وتروض ، دون رادع ولا زاجر ، وتلكم هي الدولة الموازية العميقة ، التي تأمر وتنهى ،وهي صاحبة الحل والعقد . لذلك ينبغي أن نعي وندرك أن الفساد ، حين يستشري ويستفحل ، ويضرب أطنابه  ، يستحيل جهازا قائما بذاته ، ومنظومة متكاملة تملك كل الوسائل والأدوات التي تستطيع من خلالها أن تمارس كل أشكال وألوان الفتك والهتك والفساد ، واختلاق الأزمات ، لتمرير سياسات ،أو تزكية مشاريع ، أو تبرير أوضاع ،وتسويغ انقلابات وتسويق خطابات وشعارات ، تسهم في ضمان استمرارية هذه القوى ،واستئثارها بكل الامتيازات والمغانم التي توفر لها الغلبة في كل الصراعات التي تخوضها مع خصومها الحقيقين والمفترضين والوهميين ، وهذه الجماعات النافذة لها أياد بها تصول ، وأقدام بها تسعى وتجول ، وعيون ترصد ، وآذان تسترق السمع...وهي صورة تذكرنا بقول المتنبي في وصف الموت : وماالموت إلا سارق دقً شخصه...يصول بلا كفً ويسعى بلا قدم .

إنًه شأن كلً دولة مارقة قائمة على الاستبداد والفساد والاستعباد  والقهر والإذلال والامتهان والاحتقار ، والهدم والتًثبيط ، وإنتاج الفشل والرًداءة والإفلاس ، وتمييع الحقائق ، الأمر الذي يورًث الخروقات والتجاوزات للقوانين والنظم ، والإخلال بالقيم والمبادىء ، وشيوع المظالم ، وتشويه الحقائق ، وتزييف الوقائع ، وتحريف التاريخ ، وطمس الماضي والحاضر ، وتسفيه وتتفيه كل قيًم ثمين وجميل، ومن ثمً فإنً قطع رؤوس الفساد أولى وأوجب من قطع أذرعه ، لأنًه بقطع الرًأس ، تتعطًل آليا وظائف الأعضاءالأخرى ، وهو أمرٌ يتطلب معالجة البيئة الفاسدة الموبوءة التي أنبتت هذه الطفيليات ، ووفًرت التربة الخصبة لنموها وتكاثرها، ومهدت لها القنوات والثًغرات  التي سهلت لها التوالد والانتشار ، لأن الفساد ليس سلبا ونهبا للمال العام فحسب ، ولكنه غش في العمل ، واحتيال في إنجاز المشاريع ، وصفقات وعقود مشبوهة ،وتقاعس في أداء الواجب ،وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن والمواطن ، وممارسات سلبية تشين المعاملات ، وتفسد العلاقات ، وتهدم الثقة ، وتفتح الباب على مصراعيه للانتهازية والوصولية والرشوة ، والوساطة في التوظيف ، والاحتيال على البسطاء والمستضعفين ، والتلاعب بمصير الأجيال ، من خلال محاربة الكفاءات ، وإشاعة السخف وزرع ثقافة اليأس والإحباط ، والتشكيك في كل شيىء ،وهدم الأخلاق ، والتعليم ، وتعميم الجهل والخرافة ، وإلهاء الرأي العام بالتوافه والصغائر ، تمهيدا لسلخه عن مقوماته وثوابته ، لذلك لا ينبغي أن ينصرف اهتمامنا إلى تغيير الرؤوس فحسب ،بل يجب تجفيف منابع الفساد ، وتطعيم المواطن بلقاح مضاد للفساد ، بتركيز عال وفعال ، ولا يستقيم أمر الأمة ، ولا يصلح حالها إلا إذا استوفت حظها من ثلاثية التربية والوعي والعلم .

 

بداية الصفحة