كتاب وآراء

إسكاتُ الأبواق أولى من تربية الأذواق

كتب في : الجمعة 01 نوفمبر 2019 - 1:50 مساءً بقلم : د. حسين مبرك.

بالأمس القريب كانت كثير من الأبواق تنفخ في نار الفساد الذي أتى على كل شيىء يسبحون بحمد السلطة ويبخرون لها ، ويمارسون معها كل طقوس الاستعطاف والاستجداء ، فيمعنون في التنويه بمواقفها ومناقبها ، ويضفون عليها هالة من القداسة ، ويوغلون في تعداد فضائلها وأفضالها ، وإحصاء نعمها التي لا يعدونها ولا يحصونها ، وإن كانوا يعدون منها ، على رأي الشاعر : له أياد عليً سابغة...أُعد منها ولا أُعددها...بل يمتهنون التزلف والتملق حد التطرف ، دونما خجل من أنفسهم ، ولا حياء من خلق أو أدب أو ضمير ، فلست تراهم إلا في مواقف الإشادة والتنويه بأسيادهم ، فما منهم إلا شاكر لوليه ، أو ذاكر لسيده ، أو مقر بفضل من جاء به ، أو فرضه فأقامه ونصًبه ورسًمه بغير وجه حقً ...

   فلا عجب أن بات هؤلاء يشعرون بقوة زائدة تفوق أحجامهم الحقيقية ، الأمر الذي نفخ فيهم روح الاستعلاء والكبر ، وفتح أمامهم منافذ الجور والاحتقار للآخر ، وممارستهم لسلوكات عدوانية فيها كثير من التحقير والعنف والاستهتار بالقوانين والأعراف ، والاستخفاف بعقول الناس والإزراء بهم ، وقد ضخ فيهم هذا التعسف روح التسلط والإحساس بالزهو ، وتضخمت أطماعهم وأهواؤهم حدً الشعور بانهم مفوضون من قوى لا تقهر ولاتردع ولاتزجر ..إنً مثل هذه النماذج السيئة الرديئة الفاسدة ، هي التي لم ترعو عن غيها وبغيها ، وراحت تعلن عن ولائها وطاعتها لفخامة الحاكم الآمر الناهي الذي لا معقًب لحكمه ، ولارادً لأمره ، فاختزلت عبقرية الأمة وعظمة الوطن في شخصه ، باعتباره المنقذ والمخلص من كل المكاره والشرور ، المالك لمفاتيح العصر ، الجالب للنصر ، فلاعجب أن قال فيه هؤلاء ماقاله الرسول -ص- في عمر بن الخطاب ض-:" لم أر رجلا يفري فريه"...لقد ظلً هؤلاء ينتجون خطاب التيئيس والفشل والهزيمة ، ويسوقون الشعارات الجوفاء والخطابات العرجاء ، ويصنعون النماذج الشوهاء المعوقة فكريا المعطوبة نفسيا على مدى عقود من الزمن ، فلم نجن غير الأزمات والمشكلات على جميع الأصعدة والمستويات ، تديرها زمر من المستبدين والمفسدين الذين ظلوا جاثمين على صدورنا يكبتون أنفاسنا ، ويقتلون إجساسنا بالحياة وتعطشنا للحرية والانعتاق والانطلاق ، ويصادرون حقوقنا وأحلامنا ، ويثبطون عزائمنا ، ويزرعون فينا روح الخنوع والاستسلام واليأس من كل شيىء...لقد صور لنا هؤلاء كل المتسللين والمتسلقين للمناصب ، والمختلسين واللصوص والمرتزقة والخونة والسفهاء والمفلسين والعملاء على أنهم رجال دولة ، وخدم للشعب والوطن ، وماهم إلا عبدة المناصب والمكاسب ، والكراسي ، وأسباب كل المآسي والمتاعب والآلام والجراح التي أورثت الضياع والاغتراب والهوان والإحباط ، ودفعت بآلاف الشباب إلى مهاوي التهلكة والجريمة والهروب من الوطن والغروب عن الحياة ...

    إن الخطر كل الخطر متأتً من منظري الفساد ، ومروجي ثقافة الانهزام والانصياع للأمر الواقع ، والقبول بالظروف المصطنعة والأزمات المفتعلة ، حتى يخلو لهم التحكم في مفاصل الامور ، والتمكن من ترسيخ أقدامهم ، وتثبيت مواقعهم وتحصين أنفسهم من كل محاسبة أو نقد أو مراقبة أو مراجعة ، ويظل الناس سادرين في نومهم مخدرين بعيدين عن دواعي الصحوة واليقظة ، غافلين عن شروط الوعي والنهضة التي بشر بها المفكر مالك بن نبي والبشير الإبراهيمي .وبالمقابل فإن أصحاب الأقلام الماجورة لا يؤتمنون على شيىء ، لأن مهمًتهم إنما هي صناعة الوهم و إشباع النهم ، وتزيين القبيح ، وتقبيح الجميل ، فهاهم يجملون طلائع الشؤم ورموز اللؤم التي أفشت الفاقة وعقرت الناقة بكل وقاحة وصفاقة ، واستأثرت بالخيرات والثروات والثمرات ، واستحوذت على الاموال التي كان ينبغي أن تستغل في إقامة المشاريع التي تحقق التنمية والرخاء والرفاه ، وتوفر للوطن الاستقرار والتطور والرقي ، وبناء مؤسسات قوية تضمن الحقوق والحريات وتحفز الطاقات ، وتثمن المبادرات وتشجع الكفاءات ، وتعزز دولة المؤسسات والقانون .

    وإذا كان المستبد الفاسد وحشا ضاريا ، فإن أعوانه وعيونه الذين يؤدون مهمة التمييع والتمويه والتضليل والتبرير والتزييف والتعتيم هم المخالب والانياب التي تمزق جسد الضحية وتريق دمها وتزهق روحها...إذ ليس الفاسد بأعظم عورة ولا أقبح حالا ممن قبل فساده.

بداية الصفحة