كتاب وآراء

الفيسبوك بين الحرية والمسئولية

كتب في : الاثنين 06 اغسطس 2018 - 6:58 مساءً بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي

أحدثت اختراعات أجهزة الكومبيوتر ، والهواتف الذكية ، وشبكة الإنترنت عموما ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، وعلى رأسها الفيسبوك خصوصا .. ثورة تكنولوجية عظيمة ، وطفرة علمية كبيرة لم تشهد البشرية مثيلا لها من قبل .. حيث تعتبر هذه الاختراعات من أكثر وسائل الاتصال استخداما وانتشارا في هذا العصر .. حيث يستخدمها الإنسان بحرية كاملة لا سقف لها ولا رقابة عليها اللهم باستثناء المسئولية الشخصية والرقابة الذاتية النابعة من الإنسان نفسه ونظرا لسهولة استخدامها منحت مستخدميها قدرة فائقة على التواصل المباشر مع بعضهم البعض بالكتابة والصوت والصورة خلال ثواني معدودة ، والوصول إلى ما يريدون بسهولة ، ومعرفة ما يبحثون عنه بسرعة مهولة ، والتفاعل مع آلاف الأصدقاء دون عناء في وقت واحد وفي أي مكان في أرجاء المعمورة .. حيث أصبح العالم كله حاضرا بين أناملهم في التو واللحظة يتنقلون بين الدول والقارات بحرية مطلقة لا حدود جغرافية توقفهم ولا موانع سياسية تقيدهم ، فيتابعون الأزمات والمحن ، ويطلعون على أخبار الشعوب والأمم ، ويشاهدون الحوادث والحروب والكوارث قبل وأثناء وبعد وقوعها .. ولم يعد ممكنا لأجهزة الإعلام الرسمي في أية دولة – كما كان يحدث من قبل – أن تعرض لشعوبها الأخبار التي تخدم الأنظمة الحاكمة ، أو تحجب ما تشاء من الأخبار التي لا تأتي على هوى الحكام . 
منذ أن انطلقت هذه التقنية الإلكترونية الحديثة من بلاد العم سام ، ومنها انتشرت كالنار في الهشيم في ربوع الدنيا كلها من أقصاها إلى أدناها .. أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي وعلى وجه الخصوص الفيسبوك الأكثر تأثيرا وانتشارا في مصر .. خصوصا في أوساط الشباب المحبط البائس الذي ضيعته الواسطة والمحسوبية ، وطحنته البطالة والظروف الاقتصادية ، فعجز أن يحقق أحلامه ، ويلبي الحد الأدنى من احتياجاته الضرورية ، ويثبت وجوده على أرض الواقع ، فوجد ضالته في موقع الفيسبوك ، وراح يبحث فيه عن ذاته عله يجدها في هذا العالم الافتراضي اللامنتهي .. فإذا بهذا العالم العجيب يمنح الشباب فرصة لتعرية واقعة المرير ، وفضحه أمام العالمين ، والسخرية منه ، والانتقام ممن صنعوه ، وكانوا السبب المباشر في استفحاله .. شجع الشباب على ذلك ما يتمتع به موقع الفيسبوك من مميزات عديدة أهمها أنه متاح للجميع دون تمييز ، ومباح للكافة بلا قيد أو شرط .. لذلك انتشر بين المصريين بسرعة غير مسبوقة .. أما ايجابياته فلا تعد ولا تحصى لعل أهمها أنه اكتشفت المواهب الشبابية المدفونة ، وكسر حاجز الخوف من جبروت السلطة ، وفجر الطاقات الوطنية المركونة ، وأصبح منبرا لمن لا منبر له ، وصوتا للغالبية الصامتة المطحونة ، حيث منح هذه الغالبية المحرومة حرية مطلقة للتعبير عن الرأي في المشاكل والهموم العامة ، وأتاح لها مساحة مفتوحة لمناقشة القضايا الوطنية الهامة التي حرمت من المشاركة فيها سنين طويلة ، كما أتاح لمستخدميه المشاركة الإيجابية على مدار الساعة دون رقيب أو حسيب ابتداء من تبادل الأخبار والمعلومات ، مرورا بتقديم الأفكار والاقتراحات ، وانتهاء بتسليط الضوء على الإهمال والفساد والانحرافات . 
لذلك أصبح الفيسبوك من أكثر مواقع التواصل الاجتماعي شعبية واستخداما في مصر .. خصوصا بعدما اندلعت على إحدى صفحاته الشرارة الأولى لثورة 25 يناير الشعبية المباركة التي غيرت وجه مصر والمنطقة بأثرها ، ولا يضيرها انضمام بعض الخونة والممولين إلى صفوفها ، ولا يقلل من شأنها أنها سرقت من قبل الانتهازيين وتجار الدين .. فما زالت التداعيات الإيجابية والسلبية لهذه الثورة مستمرة حتى يومنا هذا .. ولعل من ابرز تداعياتها الإيجابية اندلاع ثورة 30 يونيو الشعبية الخالدة التي صححت المسار ، وأعادت مصر من قبضة حفنة من الأشرار ممن امتهنوا الاتجار بالدين فتوهموا انهم من أهل الجنة وبقية المصريين في النار .. نعم ساهم الفيسبوك في إشعال ثورتين ، وإسقاط نظامين ، ومحاكمة رئيسين .. فأصبح له تأثير ملحوظ في صناعة القرارات السيادية ، ودور مهم في الحياة اليومية ، وجزء رئيسي في المعادلة السياسية .. بعدما تحول من مجرد موقع للتواصل الاجتماعي إلى سيف مسلط على رقاب الفاسدين والخارجين عن القوانين ، فقلب الموازين الإعلامية رأسا على عقب ، ونال اهتمام المواطنين والمسئولين على السواء حتى أطلق عليه البعض (الإعلام الموازي ) بينما أطلق عليه البعض الآخر ( الإعلام الشعبي ) . 
جاء استقبال الرئيس السيسي في قصر الاتحادية منذ عام مضى للمواطنة الأصيلة منى السيد بهذه الحفاوة ، وحواره الأبوي ، وتكريمه المادي والأدبي لها كنموذج مشرف للمواطنة المصرية المكافحة التي أعلنت العصيان على العادات والتقاليد والموروثات البالية ، ولقنت الشباب العاطل درسا في العمل والنشاط والوطنية ، ورفعت شعار المساواة بين الرجل والمرأة في مجتمع ما زال للأسف بعض أبنائه الجهلة ينظرون للمرأة نظرة عنصرية دونية متخلفة .. حيث تعمل هذه السيدة الفاضلة منذ نعومة أظافرها يوميا 12 ساعة متواصلة دون ملل أو تزمر أو كلل عاملة على عربية ذاتية الدفع لتوزيع كراتين الحلوى على المحلات التجارية في أحد أحياء مدينة الإسكندرية .. أقول جاء استقبال وتكريم الرئيس عبدالفتاح السيسي لهذه السيدة المكافحة استجابة فورية لنبض الجماهير المصرية العريضة الذي جاء معبرا خير تعبير عن قصة كفاح هذه السيدة البسيطة بعد نشر صورتها على الفيسبوك وهي تقوم بعملها الشاق بتفاني وهمة ونشاط .. انظر كيف كان تأثير صورة منشورة على الفيسبوك سريعا وإيجابيا وقويا على مستوى أعلى قمة هرم السلطة في الدولة ؟ . 
شئنا أم أبينا أصبح الفيسبوك بجميع المقاييس العلمية والمهنية المعروفة الأسرع والأقوى والأكثر تأثيرا على مسيرة الحياة السياسية في مصر من ماكينة الإعلام الوطني المسموعة منها والمرئية والمقروءة .. وليس أدل على ذلك من وقوفه وراء إقالة وزيري عدل خلال فترة زمنية وجيزة .. بسبب تصريحاتهما غير المسئولة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى التعصب الطبقي ، والتطرف الثقافي ، والانحدار الفكري ، والغباء السياسي حيث تجاوزت تلك التصريحات حدود اللياقة واللباقة على الهواء مباشرة في برنامجين تليفزيونين أحدهما كان على التليفزيون المصري ، والثاني على إحدى القنوات الفضائية المصرية الخاصة .. ولو أن الأمر ظل قاصرا على تغطية الإعلام العادي بشقيه الخاص والرسمي – كما كان في السابق – لمرت تلك التصريحات المسيئة مرور الكرام .. لكن الفيسبوك الذي يراقب الأداء العام ويقيمه ، ويشيد بالإنجازات ، ويرصد التجاوزات ، ويحارب الفساد بكافة أشكاله ( المالي والإداري والأخلاقي ) تلقف بسرعته المعهودة هذه التصريحات الشاذة الممقوتة ، وأخضعها للمناقشة والتفسير والتحليل ، ثم أصدر قراره الشعبي العظيم بعدم صلاحية الوزيرين لتحمل أمانة المسئولية في دولة بتاريخ وحجم وعظمة مصر .. ذلك لأن أحدهما عدوا لدودا لمبدأ العدالة الاجتماعية ، والآخر أخطأ في حق سيد البشرية .. فما كان من الدولة المصرية إلا أن استجابت فورا للأوامر الشعبية .. وهنا تكمن عظمة وخطورة الفيسبوك . 
لكن بقدر ما ألغت هذه التقنية المسافات ، واختصرت الوقت ، وحولت العالم كله إلى قرية صغيرة بل إلى غرفة واحدة بقدر ما تسببت في سلبيات كثيرة لا حصر لها حيث أدى الانغماس في هذه التقنية الإلكترونية المتطورة إلى مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية جمة فلا شك أن كثرة استخدام البعض لمواقع التواصل الاجتماعي وخصوصا الفيسبوك أدى بهم إلى الوقوع في أسره ، والإدمان على استخدامه ، ومن ثم عدم القدرة على الاستغناء عنه ، فعاشوا حياة افتراضية لا أرض لها ولا وطن ولا عنوان ، هدرت الوقت ودمرت الصحة وبددت الجهد والمال فكان الانعزال شبه الكامل عن الواقع نتيجة لما تقدم .. الأمر الذي أثر سلبا على الإنتاج من ناحية ، وأدى إلى التفكك المجتمعي من ناحية أخرى نظرا للاستعاضة بالتواصل عبر الفيسبوك في المناسبات العامة والخاصة عن الالتحام بالأسرة والتواجد المباشر بين الناس مما يهدد تماسك المجتمع بأسره ، ناهيك عن سلبيات التواصل مع شعوب أخرى ، والاطلاع على ثقافات مغايرة دون ادراك أو وعي أو خبرة وما يترتب على ذلك من تعريض قيمنا ومبادئنا وعاداتنا وتقاليدنا للضياع أما أكثر سلبيات الفيسبوك ضررا وأشدها خطرا على حاضرنا ومستقبلنا فهي استغلاله من قبل الجماعات الضالة في الداخل والخارج للتحريض على العنف ، وتجنيد الشباب لإثارة الفوضى ، أو الإيقاع به في شبكات التجسس المنتشرة في تلك المواقع كالسرطان ، وغيرها من السلبيات الأخرى التي تهدد الأمن القومي ، وتهدم القيم ، وتضر بالاقتصاد الوطني ، وتدمر كيان الأسرة والمجتمع والدولة في آن واحد فالحرية المطلقة مفسدة مطلقة لأنها سلاح ذو حدين لا يحسن استخدامه إلا من تحصن بحب الوطن ، وتسلح بالعلم والمعرفة .. الأمر الذي يستلزم تدخل الدولة من أجل الصالح العام لا أقول بالحجب والتضييق ولكن بالتنظيم والتقنين شريطة ألا يتعارض ذلك مع الحقوق والحريات العامة التي كفلها الدستور ونص عليها القانون .

بداية الصفحة