كتاب وآراء

قيمةُ العمل ، بين مرجعيته ومنهجيته.

كتب في : الاثنين 30 سبتمبر 2019 - 12:35 صباحاً بقلم : الدكتور حسين مبرّك.

لقد بات واضحا بما لا يدعُ مجالا للشًكً أنًنا لا نملكُ خبراء في الدًراسات الاستراتيجية وباحثين ومحلًلين مختصًين في العلوم السياسية والعلاقات الدولية قادرين على استقراء الأحداث والظواهر، ورصد الأوضاع والأحوال والتحولات،  وقراءة التطورات والأزمات والمستجدات التي تعتري المجتمع قراءة فاحصة واعية ومنهجية من شأنها وصف الحلول وتشخيص العلل وعرض البدائل ونقد السلبيات والنقائص نقدا بناءا...وهي مهمًةٌ تضطلع بها النخب من العقول المُفكرة والمُدبًرة والمُتحرًرة من كُلً أشكال الضغط والولاءات والانتماءات السًياسيًة والحزبية غير الغارقة في مستنقعات الإيديولوجيا  بالمفهوم السلبي،  الذي تحكُمُه التجاذبات والأحلاف والتًكتلات والصراع من أجل اصطياد المغانم، وافتكاك المكاسب، على حساب الأفكار والمشاريع الحيوية التي من شأنها الارتقاء بالفرد والمجتمع ، والمساهمة في نهضته وهذه النخبة هي تلك الكفاءات والشخصيات المشهود لها بالعلم والنزاهة وحُسن السًيرة ونظافة اليد وذُيوع الصًيت، على غرار ما نلقاهُ في الدول الفتيًة النًاهضة والمُتحضًرة، التي تُؤسًسُ لمراكز البحث والتًخطيط ، ووضع الاستراتيجيات التي تُتيحُ للأمًة أن تتعامل مع  الرًاهن والحاضر، وما يعتريه من تغيُر وتجدد، من موقع القوة والجاهزية وحسن الاستعداد لمواجهة التًحدًيات والرًهانات، في إطار ما يسمًى بالنًظام الدولي الجديد،  وتبعاته على المستوى السًياسي والاقتصادي والثًقافي واللغوي ،  لاسيما في ظل تيار العولمة الجارف المُدجًج بقُوًة أدواته التكنولوجية ووسائله ووسائطه الخارقة للهُويات والحُدُود، الدًاهمة للخُصُوصيات، الضًاربة لكل الحواجز التي تعترضُ طريقها، وتتجلًى أهمًيةُ هذه المراكز والمخابر في رصد ومتابعة كُلً ما يضجُ به العالمُ ويزدحمُ به العصرُ من مُفارقات وصراعات واضطرابات وزحامات تنشًطُها وتحرًكها قوى عالمية مافتئت تتنافس في سباق محموم ، بغية بسط سيطرتها العسكرية والاقتصادية والثقافية والسياسية على المعمورة ، بما يُتيحُ لها رسم خريطة العالم،  وإعادة ترتيب العلاقات،  وصياغة المصالح وفق مبدأ البقاء للأقوى . وقد أثبتت التًجاربُ أنً المخابر ومراكز البحث في هذه الدول هي الأرضيةُ الصًلبةُ والتريةُ الخصبةُ التي تستنبتُ النًظريات ، وتنتجُ الأفكار وتصنعُ المناهج والخطط وتصوغ الآليات والبرامج ، وتُطوًرُ المهارات وتستغل الكفاءات التي تترجمُ حاجيات الأُمًة ،وتصوغُ مشاريعها وترسمُ مناهجها ، التي  تحفظ كيانها وتوازنها ، وتُعزًزُ شخصيتها ، وتُعلي مكانتها، وتُعبًرُ عن رُوحها وطُمُوحها في سُلًم الرُقي والتًقدُم ،بمنأى عن الارتجالية والاندفاع والعشوائية ، والتًردُد،  وبمعزل عن سياسة التًرقيع . ولاشكً أنً هذه الضًوابط الدًقيقة ، والدًراسات المُعمًقة ، هي المجالُ الحيوي الًذي ترُاهنُ عليه هذه القُوى ، باعتباره قناة لاستشراف المُستقبل ، ومجسًا للرًاهن، ومحكًا للتًاريخ ، واستحضارا للتًجارب وتعمُقا لها ، وإفادة منها ، من خلال ما تخلصُ إليه من نتائج وخلاصات ونظريات ، تُبلوَرُ إلى مشاريعَ  مدرُوسة ومُقنًنة ، قلًما تُخطىءُ هدفَها وغايتهَا ، وبمثل هذا التًخطيط والتًنظيم تفوًقت علينا هذه المُجتمعاتُ ، وحازت قصب السًبق، وفرضت ذاتَها ووجودَها ، كقُوى فاعلة  ومُؤثًرة ، ومُتحكًمة في مفاصل التكنولوجيا ، ومقاليد الاقتصاد والتنمية ، وعوامل الرًخاء والاستقرار والرًفاه في المعيشة .

وفي كُلً مرًة تُفاجئُنا الأحداثُ ، وتُباغتُنا تداعياتُها وتبعاتُها ، لتجثم علينا الأزماتُ  ونجد أنفُسَنا في موقع ضعف ، غيرَ قادرين على مُواجهة التًحدًيات والرًهانات عاجزين عن التًعامُل معها بإيجابية ، لتشغلنا الأعراضُ والتًوافهُ والقُشُورُ عن الجوهر واللباب ، ونظل نهبا للتًخلف والجهل والضياع .. ، ولعلً الحراك الذي شهدته الجزائرُ مُؤخًرا ، خيرُ شاهد على ذلك ، حيثُ وجدنا أنفسَنا قاصرين عن مُواكبته  والاستجابة النًاجعة لمقتضياته وأهدافه وتفاعلاته ، مشدُوهين مُتردًدين

غير قادرين على احتواء الوضع ، ومعالجة تداعياته وتبعاته ، والخروج من حالة الفراغ والتلكُؤ والاندهاش التي أصابتنا ، ومن ثمً فإنً هذه الأزمة ، قد أثبتت أنًنا لا نملكُ طبقة سياسية راشدة مُؤهًلة للنهوض بمسؤولياتها ، وبثً الوعي السياسي ،وإشاعة ثقافة المُواطنة الحقيقية ، التي تتجاوزُ المُطالبةَ بالحُقوق إلى أداء الواجبات  وتعبئة الطًاقات واستنهاض الهمم ، وشحذ العزائم ، والإسهام في إرساء دعائم الديمقراطية  ، وتعزيز ثقافة الحوار  وممارسة النًقد البنًاء ، واحترام الرًأي والرًأي المُخالف ، واحترام الأقلية ، والخضوع للأغلبية .

ولعلً أصدق وصف لهذه الأحزاب أنًها أطيافٌ صُورية ، مُنفصلةٌ عن واقع المجتمع  ولا علاقة لها بمشروع النًهضة ، وإنًما هي أطباقُ مُناسباتيةٌ استعراضيةٌ ، وُجدت لأداء مهام مخصُوصة ، ليست أكثر من تنازُع البقاء ، وتحقيق مكاسب سياسية  والمشاركة في أعراس السلطة التي أوجدتها ، والأكل من موائدها ، وتزكية سياساتها وتغطية خيباتها ، وتبرير نكساتها ، واستجداء رضاها ، بغرض التكسب ، بعيدا عن مشروع الإصلاح الحقيقي الذي تبنته الحركات الإصلاحية في العالم العربي والإسلامي في عصر النهضة والانبعاث والإحياء ، وأدركنا جميعا أنً النخب من المُثقًفين والسًياسيين فشلت فشلا ذريعا في إنتاج وتأليف رجال عاملين فاعلين وطلائعيين، وقد كشف محكُ الاستحقاقات والتًحولات ، والحراك الذي عرفته البلاد  أنًنا أمام وُجُوه وشُخُوص لا تملكُ غيرَ إصدار البيانات والإعلانات المقتضبة المُوجًهة للاستهلاك والتًمويه ومُمارسة الشًعبوية ، والأمرُ نفسُه مع كثير من الإعلاميين والصحفيين الذين لا يُحسنون القراءة ، ناهيك عن انحسار الكتابة التي تُعنى بتحليل الخبر والحدث ، وتفكيك المُعطيات والحيثيات ، وقراءة المُلابسات التي تُحيطُ بحركية المجتمع وتطلُعاته، وجُلُ ما يكتبون ، هي  انطباعات سطحية مبتذلة ،لا تبلغ ُمستوى الحرفية والمهنية، التي تتيحُ لهم القُدرة على تشخيص الأشياء وتحليلها وإقناع المتلقي.

 

بداية الصفحة