كتاب وآراء

عايدة الجوهري تقرأ فلسفة اليسار

كتب في : السبت 04 فبراير 2023 - 2:51 مساءً بقلم : عايده الجوهرى

 

يشهدُ العالمُ مفارقةً لافتةً للنظر، مقابل ظاهرة عولمة السوق وحركة السلع وسيادة مباديء التيار الرأسمالي، تتصاعدُ التياراتُ اليمينية المعبرة عن الرغبة للانكفاء على الكيانات القومية، وهي تناهضُ موجات الهجرة كأن بذلك الموقف تريدُ حماية الصفاء العرقي وتبثُ عقيدة التفوق القومي .ومايدعو إلى الاستغراب أكثر وسط هذا الحراك القائم بين الإرادات المُتضاربة.إن صوت الفكر اليساري قد توارى من المشهد العالمي،هنا يتبادرُ إلى الذهنِ سؤال هل كان قدر اليسارِ معقوداً على تجربة الاتحاد السوفيتي وانتهى أجلهُ مع انهيار جدار برلين؟ وماذا عن التيارات اليسارية التي كانت تُمثلُ طيفاً واسعاً من المجتمع وتحظى بجماهيرية كبيرة ؟ يبدو أنها لم تكنْ إلا إرتداداً للموجة وتفاجأت بانتصار المعسكر الذي كان من المتوقع أن يسحقهُ ناموس الحتمية التاريخية.والأزمة تتعمقُ أكثر مع إعلان الرموز اليسارية البارزة ولاءها للطرف الفائز في الحرب الباردة.وهذا الاختبار كشف الغطاء عن البؤس الفكري والهشاشة المبدئية.والتحجر الآيدولوجي.وبالطبع لايصعبُ على من يستعيضُ بالجوهر قشوراً الانصراف من النقيض إلى النقيض دون المرور بلحظة المُساءلة والتدبر العقلاني.وهذه النماذج من التفكير السطحي تؤكدُ بأنَّ كل مايتمُ ترويجه تحت طائلة وصفات في مطبخ المستقبل ليس إلا خزعبلات لاتُطعم العقل سوى الوهم ومن المعلوم أنَّ مايصيبُ الفكرَ في المقتل هو التشبع باليقين بأنَّ هناك مرحلةً تاريخية معينة هي آخر مايمكنُ للبشرية الوصول إليها أو الإيمان بأنَّ الواقع ليس إلا عبارة عن مختبرٍ وظيفته تتمثل في الإبانة عن صحة عقائد فلسفية والدعم لمصداقية مشيئة حاملي الألوية الخلاصية.وكان كانط محقاً في قوله بأنَّ فلسفة التاريخ لايُمكنُ أن تُكتبَ إلا من شخص لديه الشجاعة الكافية للتظاهر بأنه يرى العالم بأعين الرب. ندرة ومايستوقفُ المُتابعَ هو ندرةُ العقل السجالي المؤثر في البيئة المشحونة بسيولة أفكارٍ مُسلعنة، لاتخدمُ سوى العقيدة الرائجة بأنَّ السائد من الآراء وشكل الحياة المستنزف للحس الجمالي تتويجُ للمسيرة البشرية، ولم يعدْ في رصيد التاريخ مايمكنُ التعويل عليه لمشاكسة التيار المُهيمن بكلمة "مابعد" وكما يقولُ المفكر اللبناني كريم مروة أن المنظرين للنظام الرأسمالي وديمومته نجحوا في إيهام البشر بأنَّ ليس من حقهم التفكير ببديل مع انهيار النموذج الإشتراكي وأصبحَت النيوليبرالية قدراً للجميع.لعلَّ التبصر بهذا الواقع الزاخر بالتناقضات المضنية في حقيقته والواعد بالتكافؤ في الفرص على السطح يتطلبُ الحفر في الشق الغائب من ثنائية اليمين واليسار وهذا ماتقومُ به الباحثة اللبنانية عايدة الجوهري في كتابها المعنون ب "اليسار الماهية والدور " قبل الحديث عن محتوى ماقدمته الجوهري في إطار قراءتها لخلفية مفهوم اليسار الفكري والسياسي لابُدَّ من التنويه بأنَّ اليسار اللبناني بخلاف معظم الحركات اليسارية في العالم العربي تمكن من تأسيس القواعد الفكرية ويُسجلُ له الجرأة في مراجعة المباديء التي تحولت إلى منحوتات للعبادة الحزبية.وشب عن طوق وصايا المركز سواء أكان متمثلاً بالسوفيت أو بالصين .ومن المعلوم أنَّ التبعية والقبول بالكليشهات الجاهزة تفرغ الكيانات السياسية من الارادة المُستقلة إلى أن ينتهي بها المطاف نحو الجمود وتفصلها عن حقيقة الواقع شبكةُ من الأراجيف.أياً كان الأمر ما درستهُ عايدة الجوهري في فصول مؤلَفِها يشملُ على جملة من الإشكاليات التي واجهت اليسار العربي منها غياب المبادرات الهادفة إلى صياغة أدبيات تلبي مُتطلبات الواقع ولاتُنافرُ خصوصية البيئة الاجتماعية والتكوين الاقتصادي.مما لاشكَّ فيه أنَّ التحولات التي أخذت بتلابيب العالم بعدما تعملقت الرأسمالية وتبعثرت أوراق منافسها قد أرخت بشبحها على معجم المفردات السياسية والفكرية وعلت الأصوات معلنة نهاية الآيدولوجيا وختام التاريخ ممهوراً بدمغة الرأسمالية إلى أنْ أمسي المصطلح اليسار حتى لدى فئة من دعاته نوعاً من تكنولوجيا قديمة مقابل تكنولوجيا حديثة حسب تعبير الجوهري.إذن اشتدَّ التسابقُ للانضمام إلى عهد النيولبيرالية وتشرذمَ اليسارُ كما لاحظت الباحثة على ثلاثة أصناف "أهل التبرؤ" و"أهل التهوين " و"أهل التذبذب" مستجلية ً في سياق تأملها أعراض تشكيلة السياسية السقيمة في الديموقراطيات المشوهة تختلطُ في مناخها مدلولات التسميتين "اليمين" و"اليسار" وذلك نتيجةً لتشتت الرهانات وتقافم ظاهرة الاحتماء بالطائفة والمذهب والقومية.كما أنَّ مُصطلح اليمين غير متداولٍ في خطاب السياسي والإعلامي العربي علماً أنَّ المواصفات الطاغية على المنهج والمواقف الغالبة على الأصعدة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية مطابقةُ بقضها وقضيضها للعقلية اليمنية.وماتستخلصُ إليه صاحبة "رمزية الحجاب" من خلال بحثها إن معظمَ الكيانات السياسية الفاعلة في المنطقة تقعُ في متن "اليمن" أو "اليمين الرجعي " على الأغلب.مايجدر بالذكر هنا أنَّ اللغط في الرؤية والالتباس في الاستعمال لايلغي الجذور الفكرية والمستندات الفلسفية لمفهومي اليمين واليسار.كما لايعتمُ المنشأ اللغوي للُمصطلحين إذ يُنسب أصلهُ إلى مكان جلوس النبلاء والأكليروس من جهة وممثلي الشعب من جهة أخرى قياساً بموقع الملوك الفرنسيين قبل الثورة الفرنسية.وفي هذا المنحى تشيرُ عايدة الجوهري إلى ماكان عليه موقف الأكليروس وهم يؤيدون حق الملك بالنقض فيما قد ذهب ممثلو الشعب إلى تحجيم دور الملك. تُسلطُ الجوهري الضوءَ على الكليشهات المنتفحة ومافعلتهُ من فعايل بحمولات مفردتين اليسار واليمين.إذ وصمُ اليسار بأنَّه ضد العائلة والدين والقيم وهو تجديف بالأخلاق والمُعتقدات.ومايحوم حول اليمين أنَّه مع الاستقرار ويقدس الحرية ويحمي الأمن الإجتماعي غير أنَّ كل ذلك يخالفُ معطيات الواقع لأنَّ اليميني كما تقولُ عايدة الجوهري ما إن يلمح الخطرَ على مصالحه حتى يتسنفرَ لشن الحروب الداخلية والخارجية.أما الحرية التي يوفرها لن تكونَ مُفصلةً إلا على مقاس طموحات السوق الربحية.ومايجبُ الاعتراف به ونحن بصدد الحديث عن الربح والنفعية أنَّ التيار اليميني وفق في تحويل الصراع بين الفرد والواقع البائس إلى صراع الإنسان مع نفسه من خلال تضخم مايرغبُ فيه وخيبته بعدم بلوغ المجد الاستهلاكي. خريطة الفكر لايينعُ الإدراك بما يعنيه اليسارُ أو اليمين إلا بالاستطلاع في خريطة الفكر والعودة إلى رؤية أصحاب المذاهب الفلسفية وفهم نظرتهم بشأن ماهية الإنسان ومايكون ضمنَ حقوقه الداعمة لكيانه المُستقل عن الإكراهات الروحية والمادية.يتصدرُ مؤسسُ المدرسة الرواقية زينون حسب رأي عايدة الجوهري موقعاً ريادياً لإقراره بأنَّ البشر يشتركون مبدئياً في التفكير العقلاني مايعني أنَّه لاوجودَ للاختلاف من حيث الاستعداد العقلي والقدرة على الاستدلال المنطقي بين الأفراد بقطع النظر عن الانتماء العرقي وخلفيتهم الاجتماعية ويتبعُ شيشرون أستاذه في الرواق لافتاً إلى إن كان هناك اختلاف بين البشر فمردُ ذلك التعليم والتنشئة المؤاتية أي إنَّ العوامل الخارجية تلعبُ دوراً في زيادة فرص المرء فيما يضيفهُ إلى ماهيته.وهذا يتقاطعُ مع ماذهب إليه هرقليط بأنَّ الأشياء كلها واحدةُ ومن المعروف أنَّ فيلسوف النار قد أكدَّ على مبدأ الصراع بين قوى متضادة وبالتالي أنَّ السكون الذي يقعُ عليه النظرُ في الأشياء ليس إلا مظهراً خادعاً. ونحى سقراط باسباب الفروق بين الناس على التربية مؤمناً بالتساوي في المواهب بين الجميع.وكان أفلاطون منظراً لمفهوم التفاوت الأصلي الإلهي بين البشر ورأى بأنَّ المعرفة ليست إلا من حظوة الصفوة.بالمقابل رفض أرسطو فرضية سلفه عن المعرفة جاعلاً منها حقاً للجميع لكن استمرَ في مناصرته لنظام الرق ظناً منه بأنَّ بعض البشر مجبولون بجينات العبودية وهكذا يتموقع الفلاسفة على رقعة الفكر بناءً على نظرتهم لمفهوم الهوية البشرية.لاتكتفي عايدة الجوهري بالحث عن أطياف اليسار واليمين في الفلسفة الكلاسيكية بل تنتقلُ إلى عصر الأنوار مُتابعة بوادر اليسار لدى كل من ديكارت وكانط وجوك لوك مُستجلية دور المعقتدات الدينية وتطويعها لحماية النظام القائم الذي لاتعكسُ سياسته سوى مصالح الأقلية فالدين على الرغم من قيمه السامية قد يضيف خوفاً إلى خوف في مناخ موبوء بالطغيان.أكثر من ذلك تقع في طيات الكتاب على قراءة متباينة لنظريات أساطين الفكر الإقتصادي آدم سميث وريكاردو جيرمي بنثام.ما تتناوله الجوهري ليس سرداً للأفكار والتنظيرات فحسب إنما رصدُ للحراكات الثورية مُستكشفة دوافعها الموضوعية منها ثورة قرامطمة وثورة بابوف الذي كان يطالب بالغاء الملكية الخاصة مُقتنعاً بأنها شر البلية.وقبل التحول إلى دراسة مفهوم العدالة الاجتماعية لدى ماركس وفلسفته المبنية على المادية الجدلية والمادية التاريخية تلتفت الباحثة إلى أقطاب الإشتراكية الطوباوية يُذكر أنَّ مقاربة عايدة الجوهري لمفاهيم ومفردات الفلسفة الماركسية تنطلقُ من عقلية نقدية مرنة وهي تصرحُ بأنَّ البرولتاريا لم تَعُد كما تَمثَّلها ماركس وأتباعهُ القوة الأساس من قوى التغيير الاجتماعي بعد انفتاح المُجتمعات على المهن الإدارية والرمزية الجديدة هذا ناهيك عن الثورة الرقمية التي غيرت الأمزجة وزادت من قيمة المظهر كما أنَّ المضاربات والظواهر التي عجنت شكل الاقتصاد العالمي قد لاتُفسر على ضوء ماجاد به عقل ماركس.ربما لم يخطر بفكر صاحب "رأس المال" بأنَّ التعليم سيكون عاملاً لتعميق الشرخ الاجتماعي لأنَّ هذه القيمة الرمزية توفرها قوة المال كما هي تتحول تالياً لمصدر اكتساب الثروة في سوق العمل.والأهم في هذا الكتاب هو الربط بين الأفكار والمعاينة للواقع الأمر الذي يزيدُ من حيوية آلية البحث والاستقراء.والغاية المنشودة من هذا المنهج هو قطع الطريق على التنميط والاختزال إذ لايصحُ اقتصار اليسار على الفكر الماركسي.كما أنَّ استبدال عدد من اليساريين قبعاتهم بربطة العنق ليس حجة ضد الفلسفة اليسارية ولايطمس تاريخاً من فتوحاتها الفكرية.ربَّ السؤال المركزي الذي يجبُ أن يعاد طرحه باستمرار هل يمكن الحديث عن مرحلة مابعد الرأسمالية؟ لماذا لايشيخ هذا النظامُ ؟ قد يكون السرُ يكمنُ فيما يقولهُ الفيلسوف الفرنسي دلوز بأنَّ كل ما هو سلبي بالنسبة إلى المُجتمعات السابقة صار عنصرَ إيجاب مع الرأسمالية فضلاً على ماذكر إنَّ الرأسمالية لاتمتلكُ جذوراً وهي سيرورة تحرر دائم من الموطن.

بداية الصفحة