الأدب

ظل اللقاء 'قصة قصيرة'

كتب في : الأحد 27 يوليو 2025 - 7:20 مساءً بقلم : حنان فاروق العجمى

 

 

يلتقيان بنفس المقهى، والمطعم، وبنفس الشارع الهادئ ...الموعد قبل غروب الشمس.. أيهما يأتي أولًا؟

لم يَتَّفِقَا يومًا، ولكن يمكنك ضبط دقات الساعة على دقَّات قلبيهما التي اعتادت أن تتسارع، وتتسابق للوصول في وقت الاشتياق ذاته!!

المكان... مقهى روبرتو الإيطالي بحي الزمالك بالقاهرة

ذلك المطعم، والمقهى الهادئ الراقي الذي اعتاد رُوَّادُه على طلب البيتزا المُعتاد بأنواعها المختلفة ذات المذاق الخاص، وما يُقَدَّم من مشروبات مُنعشة،

تَقَدَّمَت ليلى بخطواتٍ مُسرعة، وهي تنظر بساعة يدها التي تُشير للخامسة من مساء اليوم، وقفت برهة تنظر بكلا الاتجاهين للعبور للجانب الآخر من الطريق، وهي تُرَدِّدُ في نفسها "يارب أصل قبل سامي حتى أستطيع الاتفاق مع الشيف لتحضير مفاجأة عيد ميلاد سامي" أريد أن أُفاجئه كي يظل يَتَذَكَّر هذا اليوم طول العُمر .. تُرى هل ستُعجبه رابطة العنق التي اخترتها له؟

كانت ليلى تعبر الطريق والفرحة تغمرها، والبالون الوردي الذي يحيط خيطه كِسوار اليد بمعصمها ويتمايل مبتهجًا يمينًا، ويسارًا، وكأنما استعار لونه من لون وجهها المُشرق بالأمل... في هذا الحين خرج سامي من المشفى بعد انتهائه من عمله، فهو طبيب امتياز بالسنة الأخيرة بكلية الطب، وقد تخصص بجراحة القلب، والأوعية الدموية، وكان قد تَعَرَّف على ليلى عندما رآها بمكتب مدير المشفى، والذي بالصدفة كان عم ليلى الذي رَبَّاها بعد وفاة أخيه وهو صغير بالسِّن إثر حادث سيارة أليم كان يقودها بصحبة والدة ليلى التي كانت تحملها كقطعة القطن البيضاء بين يديها لم تتجاوز الثلاثة أشهر، ولكن شاء القدر أن تنجو ليلى من الحادث، والتي قد تَكَفَّل عمها بتربيتها ورعايتها،الذي لم يشأ الله أن يُرزق بالأولاد، ولِحُبِّه الشديد لزوجته التي كانت لا تُنجب، ويأس الأطباء من علاجها، ونصحوهما بأن يتركا الأمر لله فليس على الله المستحيل، وقد تحدث المعجزات... لم يتَخَلَّ عن زوجته كانت ليلى ابنة بارة بعمها، وزوجته التي فتحت عيناها على أنهما أب، وأم لها عِوَضًا عن أبيها وأمها اللذان تُوفيَّا وعندما عَلِم عمها بإعجاب سامي بها، وبأنه شاب طموح، وعلى خُلُق، ومن عائلة يُشهد لها بالأصل الطيب، والصفات الحميدة رَحَّبَ بفكرة ارتباطهما وبمشروع الزواج بعد انتهاء ليلى من دراستها الجامعية حيث كانت بالعام الثاني بكلية الفنون التطبيقية، ما تزال بُرعمًا صغيرًا يتفتح على الحياة

اقترب سامي من محل الزهور على أول الشارع الذي يقع بمنتصفه المطعم الإيطالي حيث لقائهما المعتاد

أشار إلى صاحبة المحل التي هَزَّت رأسها وأشارت بيدها تُحَيِّيه فهي تعلم دائمًا الزهور التي يُفَضِّلها، وأسرعت تُعِد بوكيه الورد قبل أن يطرق باب المحل على عجل ...قال لها:-

أسرعي صوفيا أريد أن أصل المطعم قبل ليلى لأطلب من صاحبه أن يوصي بعزف الموسيقى التي تحبها ليلى، فكل ما أرجوه في هذه الحياة أن أحقق لها السعادة التي تنشدها، وتظل هذه الذكريات تصاحبنا مهما تَقَدَّم بنا العُمر، ونحكي لأبنائنا عنها إذا مَنَّ الله علينا ورزقنا بالذرية الصالحة... انتهت صوفيا من تنسيق بوكيه الورد وقالت:- تَفَضَّل دكتور سامي البوكيه اليوم هدية منِّي لليلى...كتب الله لكما السعادة

شكرها سامي وأخذ البوكيه وخرج من المحل، وكانت نبضاته المتلاحقة تتسابق مع وقع خطواته على الأرض ناظرًا إلى الأمام راسمًا طموحاته، وآماله، مُتَخَيِّلًا بيته المستقبلي، وحياته السعيدة مع حُب عُمره، ورفيقة دربه ليلى، وإذا به يسمع صوت ارتطام مُدَوِّي، وصراخ طال عنان السماء، وعبارات

"لا حول ولا قوة إلا بالله"

اطلبوا الإسعاف... اطلبوا الإسعاف، وهنا شَعُر، وكأن خنجرًا قد شق صدره، وبحركة سريعة لا إرادية التفت بوجهه ناحية الصراخ فإذا بحطام لسيارتين اصدمتا بالشارع العمودي على الشارع الذي يقع به المطعم والمارة بالشارع يُردِّدون .. هل أصيب أحد؟

وأجاب أحدهم... ربنا يستر... في مصاب

وبسرعة البرق جرى سامي عابرًا الطريق، انفلت بوكيه الورد من قبضة يده مع اندفاعه وجريانه نحو الحادث، ووسط تدافع المارة لرؤية ما حدث، وقع من يده الورد متناثرًا على الأرض مختلطًا بالدماء، وكان كلما اقترب من مكان الحادث وسط الطريق تُفجعه دقة من دقات قلبه، وكأن حجرًا ارتطم بصدره، وكسَّر ضلوعه... تَقَدَّم ليرى المصاب بالحادث قائلًا:-

ابتعدوا عن الطريق أنا طبيب دعوني أرى المصاب إلى أن تصل سيارة الإسعاف... ابتعد الناس قليلًا ليتمكن الطبيب من معاينة المصاب وقال أحدهم:- إنها فتاة المُلقاة على الأرض فتاة شابة، وبدا وجهها، مُلَطَّخًا بالدماء بجانبها تراصت لوحتان اختلطت ألوانهما بلون الدم الأحمر، وأمامهما حقيبة يد بُعثِر كل ما بداخلها فرش للرسم متناثرة بكل مكان حولها، مُذَكِّرة وردية أوراقها تتطاير بحلقاتها المعدنية يعلق سلسال فضي به دلَّاية على شكل حرف "إس" باللغة الإنجليزية" S" مزخرف بالفيروز الأزرق ... بالون لم يبرح معصم الفتاة تشبَّث به بقوة... رابطة عنق تخرج من حقيبة للهدايا ذهبية اللون...بطاقة معايدة...

كل هذا وقع أمام ناظري سامي

لم يتمالك نفسه هذا السلسال هو هديته لحبيبته ليلى ومُذَكِّرَتِها الوردية التي اعتادت تدوين كل شيء بها حتى لقاءاتهما معًا... ضحكاتهما... نوع البيتزا التي يطلبانها وماذا شربا، الزهرة التي كانت تأخذها من الفازة الموجودة على منضدة المقهى كل مرة وتُجفِّفها لتحتفظ بها داخل المُذَكِّرَة شاهدة على لقائهما،

صرخ سامي بأعلى صوته، يبدو على ملامحه الفزع

ليلى... حبيبتي ليلى.... لماذا؟

انهضي يا حبيبتي لنحتفل سويًّا، لا تتركيني... يااارب

رحمتك ياااارب.... لا تأخذها منِّي ...

لن أعيش بعدك يا ليلى... ضَمَّها إلى صدره...

تحسس نبضها... لا يوجد نبض... تنزف بشدة...

لا تتنفس... لا تتحرك.... لا تنطق

استيقظي يا حبيبتي.... كنت أريد أن أحكي لكِ عن الشقة التي شاهدتها... أنا أخذت موعدًا من السمسار

شقة أحلامنا يا ليلى.... هناك سوف نكبر سويًّا... هناك سنحكي لأولادنا عن لقائنا، وحُبِّنا، هناك سنلعب معهم

هذا غير حقيقي لا.... لا أُصَدِّق ... كُنا سنبدأ....

لا لم ننته يا ليلى...

لا تتركيني يا حبيبتي.

مَرَّت الأيام، والسنوات، وما زال سامي يذهب للمطعم الإيطالي كل يوم بعد ميعاد عيادته ليجلس على نفس المنضدة حاملًا معه بوكيه الورد من محل صوفيا بنفس الشارع... يتأمل كل شيء حوله... يبحث عن ليلى في وجوه كل المارة بالشارع... في وجه كل فتاة تبتسم كابتسامة ليلى، ثم يقوم من مقعده في نهاية اليوم يأخذ الوردة التي بالفازة على المنضدة ويترك بوكيه الورد الذي تحبه ليلى على مقعدها الذي كانت تجلس عليه بجانب الزجاج الذي يُمَثِّل شاشة تعرض أحوال الناس بالخارج وماذا يُخبِّئ القدر لهم... ينسحب سامي في هدوء من المطعم مُثقل الخُطَى كأنه لا يريد الرحيل فقط يرغب في صُحبة ظل ليلى على المقعد التي لن ينساها مدى الحياة... ظلَّ هكذا يتحدث مع ظِل ليلى ومع أيام تخلو من البهجة إلا من ألوان زهور ليلى .

بداية الصفحة