كتاب وآراء

عبد الرحيم مراد.. القومي العروبي والناصري المقاوم

كتب في : الجمعة 14 اكتوبر 2016 بقلم : الفنان التشكيلي عيسى يعقوب

رئيس حزب الإتحاد اللبناني عبد الرحيم مراد أكد في أكثر من مرة عبر تصريحاته أن المقاومة هي درع فلسطين ووجدت لكي تحرر فلسطين من المحتل، مشيراً إلى أن الرهان يبقى عليها وعلى المقاومة في لبنان من أجل تحرير الأراضي المحتلة، وأكد أكثر من مرة أن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية وأن الجهود يجب أن تتوحد لمواجهة ما تتعرض له فلسطين وأرضها ومقدساتها من اعتداءات إسرائيلية وحشية... عبد الرحيم مراد الذي يكاد لا يخلو منزله أو مقر عمله من الوفود الفلسطينية من كافة الفصائل ومن جميع التوجهات وجدت من الأهمية تسليط الضوء في مقالتي هذه على سيرة حياته، ليس فقط لأنها سيرة حياة رجل عظيم من هذه الأمة بل لأنها سيرة جديرة بأن تقرأ كونها تحمل كل ما يتعلق به كيف نما توجهه العروبي القومي الناصري، وتفسر تعلقه بالقضية وإيمانه بشعبه وتمسكه بالدفاع عن الفقراء ومحبته لهم وتكشف سر تعلقه بكل المبادئ العظيمة التي يعتنقها ويسعى بكل ما أوتي من طاقة ومن جهد للدفاع عنها،.. الأستاذ عبد الرحيم مراد هذا القومي العروبي الأصيل والناصري المقاوم عندما كان في الرابعة من عمره نجا من الغرق بأعجوبة حيث كان أخوته غافلين عنه بالصيد قرب الليطاني، والذي أنقذه حينها من النهر بعدما كان على وشك الموت هو أحد الفلاحين، مما جعله يفكر بعدها بأن نجاته لم تكن صدفة وأنه يجب أن يكون له دور في هذه الحياة، وبعد هذه الحادثة في أواخر عام 1948 رأى مجموعة كبيرة من الناس آتية من اتجاه جب جنين فسأل من هم؟ فأخبرته والدته أن اليهود في فلسطين يذبحون المسلمين، وهؤلاء ممن هربوا من الذبح وكان لهذه الحادثة الأثر النفسي العميق في صدره، وبدأت النقمة على العدو الصهيوني تتشكل عنده، في الخمسينات كان والده مختار القرية، والمختار في ذلك الزمن يعتبر المرجع الرسمي الوحيد في القرى، فكانت أبواب منزل المختار مفتوحة بشكل دائم للجميع سواء من أهالي القرية أو القرى المجاورة، أو رجال الأمن الذين يحضرون إلى القرية لسبب أو آخر،.. وكان لهذه الأجواء البيتية تأثير في تكوين شخصية الأبناء الذين اعتادوا فيما بعد أن يكملوا هذه المسيرة وتبقى الأبواب مفتوحة أمام الجميع،.. كانت دراسته حتى السنة الابتدائية الثانية في بلدته غزة، ثم كان عليه التنقل فيما بعد إلى جب جنين ثم صيدا، فعاليه، فدمشق، فالقاهرة، ثم البرازيل ثم القاهرة مجدداً ثم بيروت،.. عام 1955 كان محطة جديدة، لقد تسمّر أمام الراديو لأكثر من أربع ساعات يستمع لزعيم شدّه جداً هو جمال عبد الناصر يلقي كلمة في مؤتمر باندونغ، ولقد شدّه جداً كلامه عن الفلسطينيين وعاد إلى ذهنه كلام أمه عندما رآهم نازحين قرب بلدته عام 1948، وفي عام 1956 شارك في أول تظاهرة تأييداً لعبد الناصر بعد تأميمه قناة السويس وانتصاره على العدوان الثلاثي، فأرسلوا رسالة لعبد الناصر وجاءهم الرد من مكتبه يشكرهم فكانت سعادة مراد هو ورفاقه لا توصف، وابتدأ فكره السياسي ينمو نتيجة لهذه الأحداث، عام 1958 كان عام الوحدة، ذهب مراد إلى دمشق لرؤية جمال عبد الناصر، وهتف مع رفاقه "بدنا كلمة يا جمال" وكانت خطبة عبد الناصر الشهيرة في قصر الضيافة، هنا بدأ انتماءه الناصري وبدأ بتكثيف مطالعاته الفكرية والسياسية وبخاصة القومية منها والدينية، وحضور الندوات ومتابعة وسائل الإعلام، والاطلاع على كل الأحزاب الموجودة حينها،.. كانت صدمة الإنفصال كبيرة جداً بالنسبة له، ترك الدراسة في دمشق وذهب إلى مصر ليكون قريباً من عبد الناصر عام 1961، وفي عام 1962 نال الثانوية العامة في مصر، وذهب إلى البرازيل لدخول الجامعة، وفي نفس العام رأى أن الأمور أصبحت واضحة، وأسس مع مجموعة من أصدقائه الذين كانوا يدرسون في أوروبا تنظيماً ناصرياً أسموه "بعث الثورة" وبعدما كثفوا دراساتهم ومطالعاتهم وجدوا كل ما يتطلعون إليه موجوداً في شعار الثورة الناصرية "حرية، اشتراكية، وحدة"، وفي عام 1965 اندلعت الثورة في اليمن ضد الوجود الإنكليزي فقرروا في التنظيم الانخراط في صفوف الثوار وأرسل مراد إثنين لمقابلة قيادة الثورة اليمنية في القاهرة، أرسلهما إلى مكتب الشؤون العربية وهناك كان اللقاء بالسيد فتحي الديب الذي تلقفهم كتنظيم ودعاهم لحضور مؤتمر في الإسكندرية وكانت بداية العمل في تنظيم "الطليعة العربية" الذي كان يعمل في كل الدول العربية، وكان يضم الكثير من قيادات العمل السياسي في لبنان.. عام 1967 كان بالنسبة له عام الصدمة حيث راعه مشهد الهزيمة، وفي عام 1969 كان المؤتمر القومي الأول للطليعة، وكان فرحاً جداً بانتصارات حرب الاستنزاف وبنجاح ثورة أول أيلول في ليبيا وباستلام جعفر النميري الحكم بالسودان, لأنهما شكَّلا عمقاً لعبد الناصر في ذلك الحين وهو يستعد لمعركة التحرير، إلا أن فرحته لم تكتمل في تلك اللحظات حيث وفاة عبد الناصر في أيلول عام 1970 كانت بالنسبة له ولرفاقه كارثة كبرى، ولكنهم تمالكوا أنفسهم وقرروا الحفاظ على التنظيم الذي استمر حتى عام 1985، برغم انقلاب السادات على قياداته ووضعهم في السجون في 15 أيار 1971، في عام 1975 بداية الحرب الأهلية اللبنانية قرروا العمل على توحيد التنظيمات الناصرية تحت اسم الاتحاد الاشتراكي العربي وكانوا يومها يعملون في إطار أسموه "شباب البقاع الناصري" ولكن سرعان ما انفرط عقد هذه التنظيمات وعادت إلى سابق عهدها، في عام 1976 عاد إلى البرازيل وانتصرت في نفسه إرادة البناء على إرادة التدمير، فقام مع بعض رفاقه بجمع التبرعات من المغتربين، ومن بعض الدول العربية لبناء مدرسة نموذجية، ولم يفكروا يومها أن هذه الفكرة ستتطور لتنتقل المدرسة من الابتدائية إلى المتوسطة فالثانوية ثم مهنية ثم مدينة رياضية نموذجية فدار للأيتام ودار للحالات الاجتماعية الصعبة ثم إلى الجامعة اللبنانية الدولية التي بدأت في قلب الريف اللبناني ثم انتقلت إلى المدن الأخرى: بيروت، صيدا، طرابلس، النبطية، الجديدة ثم إلى الدول العربية والإسلامية من اليمن إلى السودان والسنغال وتونس والسعودية والإمارات وسورية ومصر وأنشأوا مؤسسات تربوية في منطقة راشيا وفي قب الياس وفي بيروت، هذا لأنهم هكذا فهموا الناصرية وهكذا فهموا العروبة، في عام 1990 كان اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، فتم استكمال المجلس النيابي بملء شواغر من توفي، وزيد عدد النواب فكان من نصيبه أن يكون أحد المعينين في البقاع الغربي وراشيا عام 1991،.. المقعد النيابي أتاح له زيادة الخدمات لأهالي المنطقة التي بدأها في الستينات من خلال المساعدات للمساجد والكنائس وشق الطرقات وحفر الآبار والمساعدة في إنشاء شبكات الصرف الصحي، ومساعدات النوادي والجمعيات وفي ذلك الوقت لم يكن المقعد النيابي مطروحاً بأي شكل من الأشكال، في عام 1992 فاز في الانتخابات النيابية عن المقعد الذي كان قد عين فيه تعييناً، عام 1994 شارك في الحكومة لأول مرة وكان فيها وزيراً للتعليم المهني والتقني، مما فرض عليه أن يبذل مجهوداً كبيراً ليبين أهمية هذا التعليم وتوسيعه فسعى إلى تطويره بالتشريعات القانونية أولاً ثم بفتح مدارس جديدة لهذا التعليم في كل المناطق وتجهيزها وإقامة علاقات بالدول المتطورة في هذا المجال،.. فاز في الانتخابات النيابية في دورة 1996 ثم في دورة 2000، وفي ذلك العام تم تعيينه وزيراً للتربية والتعليم العالي والمهني والتقني، وكان له دور كبير في العمل على إنشاء العديد من المدارس والمهنيات وتجهيزها وتطوير المناهج التربوية، وفي عام 2003 كانت الوزارة الثالثة وهي وزارة دولة دورها إعلامي وسياسي وليس لها مهمات محددة، وفي عام 2004 كانت الوزارة الرابعة وهي وزارة الدفاع التي لم يكن مقتنعاً بها، ولكنه حاول أن يقدم ما يستطيعه،..

من يدقق في سيرته هذه برغم اختصارها سيلحظ ذلك الإصرار الكبير منه على أن يكون العمل الوطني بالنسبة له هماً يومياً يعيشه في كل مجال قادر على أن ينتج فيه, لأن هذا ما عاهد الله والمواطنين عليه في كل المواقع التي تسلمها فكانت مؤسسات الغد الأفضل التي تنمو عاماً بعد عام في لبنان وفي الوطن العربي, وخاصة الجامعة اللبنانية الدولية، والتي يؤمن مراد أنه يمكنه من خلالها أن يضع الأساس للوحدة التربوية العربية... ومن يقرأ لعبد الرحيم مراد كيف يكتب عن العروبة وكيف يكتب عن عبد الناصر سيلحظ بشكل واضح ذلك الانتماء الكبير للعروبة والإيمان اللامحدود بها كحل وكسبيل لا بد منه لرقي ورفعة الأمة وأيضاً سيلحظ ذلك الوفاء الكبير واللامحدود للزعيم جمال عبد الناصر، ففي إحدى مقالاته التي سأذكرها على سبيل المثال يقول: يندر أن تعرف الأمم تاريخاً عظيماً لا يكتبه عظماء، ويندر أن تواصل الأمم مسيرتها على طريق العظمة إن تنكرت لعظمائها، والعرب لم يعرفوا زمناً ذهبياً في تاريخهم المعاصر كالذي عرفوه مع جمال عبد الناصر ، ولن يعرفوا استعادة بعض منه من دون إحياء قيم وشعارات جمال عبد الناصر، العروبة التي نذر عبد الناصر حياته لجعلها هوية جامعة للعرب، تظهر اليوم كحاجة تتخطى مجرد الحلم والطموح لوحدة تحشد القدرات والإمكانات وتنشئ تكتلاً هائلاً للقدرات السكانية والجغرافية والموارد المادية والعسكرية تتيح للعرب تبوؤ مكانة لائقة بين الأمم، في عالم يتجه أكثر فأكثر نحو التكتلات الكبرى، ولا يعرف إلا الأقوياء..

ومما يشير إليه في تلك المقالة بأن الأمن القومي العربي لم يعد مجرد تتمة تفصيلية لمقتضيات بناء الدولة بل صار موجهها الرئيسي، مؤكداً أن جمال عبد الناصر قد رسم له إطاراً يبدأ من الاستقلال الوطني ومارس على أساسه سياسات توجت بخطط للتنمية والبناء والعمران بقيت رموزها الحية حاضرة حتى يومنا هذا من تأميم قناة السويس إلى بناء السد العالي، واتخذ على أساسه مواقف عبرت عنها وقفاته برفض العطاءات المشروطة للغرب بممارسة التدخل في شؤون مصر والبلاد العربية، وبخوض غمار المقاومة والمواجهة مع العدوان الثلاثي الذي تعرّضت له مصر في العام 1956، واستنهاض القدرات العربية لإسقاط حلف بغداد عام 1958 بالاستناد إلى مقدرات الشعوب، فكانت الثورات في العراق وسورية والوحدة المصرية السورية، ووقفة الوطنيين اللبنانيين وصولاً لظهور أول مشروع حقيقي لبناء الدولة في لبنان من قلب وفي حضن مشروع جمال عبد الناصر... ويضيف مراد بأن هذا المفهوم للأمن القومي العربي الذي مثلت فلسطين بوصلته في زمن جمال عبد الناصر، يشعر العرب بأنهم اليوم أشدّ حاجة إليه مع دخول فوضى المصطلحات والمعايير، حتى بات هناك من يريد أن يصنع للعرب عدواً من بين أصدقائهم ويريد لهم أن يتخذوا من العدو صديقاً، في أشد لحظات التاريخ تيهاً وضياعاً للبوصلة العربية عن فلسطين، وفي أشدّ لحظات حاجة فلسطين لاهتمام العرب ومساندتهم وتلبية نداء الاستغاثة الآتي من قبلة المقدسات في المسجد الأقصى... ومما يذكره مراد من جمل عبد الناصر في تلك المقال "ارفع رأسك يا أخي لقد ولى زمن الاستعمار" ويصف هذه الجملة للناصر بأنها صرخة عبد الناصر المدوية لزرع ثقة الإنسان العربي بنفسه، ويقول عنها بأنها هي الصرخة ذاتها التي كرّرها المقاومون في جنوب لبنان وفي فلسطين والتي كانت حداؤهم في صناعة النصر بمختلف عقائدهم وانتماءاتهم، حتى كان قول سيد المقاومة «لقد ولى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات» تحقيقاً لوعد عبد الناصر وتتمة لندائه.

الفنان التشكيلي عيسى يعقوب

بداية الصفحة