كتاب وآراء

الإشتراكية بين الحلم والواقع

كتب في : الثلاثاء 18 اكتوبر 2016 بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري .المحامي

إذا كانت الاشتراكية بمفهومها الأيدلوجي تعنى فيما تعني إقامة شراكة بين جميع فئات المجتمع في بناء وإدارة الدولة .. وذلك من خلال نظام سياسي واقتصادي واجتماعي قائم على نشر قيم العدالة والحرية والمساواة والديمقراطية ، وسيطرة الدولة على الاقتصاد لضبط الأسعار ومنع الاحتكار ودعم الصناعة الوطنية ، والعمل على إذابة الفوارق الطبقية ، والإعلاء من قيمة المواطنة ، والقضاء على كافة أشكال التمييز ، والتقسيم العادل للثروة .. إذا كان ذلك كذلك - وهو كذلك فعلا - فإن الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضى الله عنه يعتبر تاريخيا رائد الاشتراكية بهذا المفهوم .. نعم إنه أبو ذر الغفاري الذى لقب بابي الثورات ، واشتهر بمقاومة الظلم ، واعتاد على مناهضة السلطات ، وعرف بعدو الثروات ، فهو أول من طالب بتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية ، ودعا إلى معاملة الناس سواسية ، وقد بلغ من الشجاعة مبلغا حينما أطلق مقولته الشهيرة : (كيف لمن لا يجد قوت يومه لا يخرج على الناس شاهرا سيفه) أي مطالبا بحقوقه ، ليس هذا فحسب بل حارب ما رآه استبدادا من معاوية ابن أبى سفيان رضى الله عنهما ، واعترض على ثرائه الفاحش من بيت المال ، كما عارض من قبل عثمان ابن عفان رضى الله عنه على إيثاره لذوى القربى من بنى أمية ، وتفضيله لهم على بقية المسلمين إذ منحهم العطايا ، وخصهم بالهدايا ، وقصر عليهم المزايا .. وبالرغم من مآخذ أبو ذر المستحقة على سياسة عثمان رضى الله عنهما إلا أن هذه المآخذ لا تقلل من مكانة الثاني المعروفة في الإسلام فهو ذو النورين ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، وثالث الخلفاء الراشدين الأربعة .

كلما تابعت الإعلانات التلفزيونية التي تخاطب طبقة الكريمة التي لا تمثل سوى 5 _ من تعداد هذا الشعب المطحون .. وما تعرضه من خدمات فندقية ، وسلع ترفيهية ، وأندية ومصايف ومنتجعات أسطورية ، وفلل بأسعار خيالية .. أشعر باليأس والبؤس والإحباط لأننا لا نعيش في مصر واحدة بل نعيش في عدة أمصار .. وأتساءل - إذا كان التساؤل ما زال مشروعا - فأقول هل قامت ثورة 25 يناير على الفاسدين أم قامت على الثوار ؟ !! ، وكلما رأيت العمال والفلاحين يتألمون من وقع البلاء وشدة الغلاء لا أدري لماذا أتذكر الزعيم الخالد جمال عبدالناصر الذي أقام العدل ، وحقق المساواة ، وطبق العدالة الاجتماعية فأنصف الفقراء والمعدمين ، وحدد ساعات العمل ، وأصدر قانون الإصلاح الزراعي فرفع الظلم الذي كان يعاني منه العمال والفلاحين ، وكلما رأيت مواكب الوزراء والمسئولين الكبار تعود إلى سابق عهدها دون خجل أو حياء ، وكلما شاهدت مظاهر البزخ الحكومي المستفز لمشاعر المصريين الشرفاء الذين يعيشون تحت خط الفقر بعزة نفس وكبرياء .. لا أدري لماذا أتذكر معارضة سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه لثراء الحكام بلا أسباب مشروعة ، وإنفاقهم بلا رحمة من بيت مال هذه الأمة ؟ .. وكلما تصورت إلى أي حد سيصل الغلاء إذا رفعت الحكومة ما تبقي من دعم الفقراء .. لا أدري لماذا يخطر على بالي ذلك الإعرابي الذي قال في واقعة شهيرة لسيد البشرية عليه الصلاة والسلام : (اعطني من مال الله فهو ليس مالك ولا مال أبيك ولا مال أمك) فأعطاه النبي ولم يغضب منه صلى الله عليه وسلم قط أو يحرمه من حق أو يقاضيه أو يخاصمه أو يقاطعه أو يظلمه أو يقصيه أو يهينه أو يعزله أو يلاحقه أو ينفيه أو يسجنه .. ولم يعيره بفقره أو عجزه أو جهله ولم يعتبره عالة أو عدد زيادة .. كما لم يتهمه بالكفر أو الإلحاد أو الزندقة أو الفسق أو الفجور أو التآمر أو العمالة أو التطاول أو الخيانة .. والأروع مما سبق أنه لم يعتبر ذلك إهانة حيث لم يوجه له صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى تهمة التقول على سيد البشرية أو إهانة الذات النبوية حيث لم تكن هناك حينئذ تهم بهذا المعنى .. الشاهد هنا أن الإعرابي لم يقل ذلك للنبي بصفته صاحب الرسالة المحمدية بل باعتباره حاكم الأمة ومسئول عن الرعية .

وكلما شاهدت الإعلانات التلفزيونية عن حديد مهندس الفساد المالي والإداري الذي عاد بقوة مرة أخرى إلى صدارة المشهد الاقتصادي .. لا أدري لماذا أتذكر مقولة أعدل أهل الأرض سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه عندما عزل أبو هريرة رضى الله عنه وصادر جميع أمواله وممتلكاته وقال له يا أبا هريرة : (وليتك على البحرين وأنت بلا نعلين فمن أين لك هذا) .. لذا يعتبر الفاروق عمر أول من سن قانون من أين لك هذا .. بينما نحن فجرنا ثورتين في سنتين وبضعة شهور ولم نستطع تطبيق هذا القانون على من سرقوا مقدرات الوطن ومصوا دماء أبنائه .

تعتبر الدعوة التي أطلقها أبو ذر الغفاري رضى الله عنه حجر الزاوية في البنيان العام للاشتراكية الإسلامية - إن جاز التعبير - التي لا تخرج عن كونها دعوة إلى إقامة مجتمع يعلي من قيم الشورى والمساواة والعدالة والحرية ، ويطبق مبدأ التكافل الاجتماعي ، ويحمي الملكيات العامة والخاصة ، ويضمن التوزيع العادل للثروة .. وهي نفس المبادئ التي تدعو إليها الاشتراكية بمفهومها العلمي الحديث والتي ظهرت واضحة جلية في عصرنا الحالي في المبادئ والأفكار التي قام على أساسها الحزب الاشتراكي المصري في عام 1921 م كأول حزب سياسي يحمل الفكر الاشتراكي ويطبقه كعمل حزبي منظم معني بالطبقات الكادحة من العمال والفلاحين والمعدمين والمهمشين ، وتحريرهم من دكتاتورية أصحاب المال ، وحمايتهم من وحشية الرأسمالية ، وقد بدأ ذلك الحزب كغيره من الأحزاب الأخرى بفكرة عابرة وانتهى بعمل منظم وممارسة فاعلة .

منذ انطلاق أول حزب اشتراكي في عشرينيات القرن الماضي إلى أن بلغ عدد الأحزاب الاشتراكية العشرات في وقتنا الحالي والتي لا يعرف أسماءها سوى القائمين عليها ، أما المواطنين فلا يعرفون لها اسما ولا رسما ولا شكلا ولا مضمونا ولا هدفا ولا مقرا ولا عنوانا .. ذلك لأن هذه الأحزاب ليس لها أي تواجد في الشارع المصري اللهم باستثناء حزب التجمع باعتباره أول حزب اشتراكي تم إنشائه بعد عودة المنابر السياسية في سبعينات القرن الماضي التي تحولت فيما بعد إلى أحزاب سياسية .. لذلك أقول منذ انطلاق أول حزب اشتراكي حتى كتابة هذه السطور اكتفت هذه الأحزاب بالنضال الوطني من المقرات الحزبية ، واعتادت على تسجيل المواقف في المؤتمرات الصحفية ، والمشاركة الرمزية في المظاهرات الشعبية ، ولم تقدم على مدى تاريخها كله سياسيا منافسا ، أو بديلا مناسبا .. رغم أن مبدأ تداول السلطة بالطرق السلمية من أهم مبادئ هذه الأحزاب التي لا تمل الحديث عنها بسبب ومن غير سبب ، كما أنها لم تخلق زعيما حزبيا تقدمه للجمهور ، ولم تفكر بجدية في الاندماج في كيان حزبي واحد رغم وحدة الفكر وتشابه الأدوات وتقارب الأهداف ، ولم تضبط متلبسة بتوعية الجمهور في الشوارع والنوادي والمصانع والمزارع والحقول ، ولم تقدم برنامجا سياسيا إصلاحيا طموحا ، ولم تصنع رمزا فكريا يلتف حوله الاشتراكيون .

وخلاصة القول ليس أمام الأحزاب الاشتراكية من سبيل سوى الاندماج في كيان حزبي كبير ومن ثم ترتيب البيت الحزبي من الداخل تمهيدا لصناعة بديل تلتف حوله الجماهير .. وحتى يتحقق هذا الحلم المنشود يجب على هذه الأحزاب أولا : الاعتراف بأن تجربتها الحزبية السابقة أدت إلى وجود فروق شاسعة بين الاشتراكية كمبادئ سامية وقواعد علمية ، وبين الاشتراكية كرموز وكوادر وأحزاب كرتونية ضحى معظم روادها بالمبادئ والأهداف من أجل المناصب الحزبية والمكاسب الشخصية والمنافع المادية فحولوا الفكر الاشتراكي من حلم كبير تتطلع إليه الملايين إلى واقع هزيل بعدما حولوا مقراتهم الحزبية إلى منصات كلامية للإدانة والشجب والمعارضة من أجل المعارضة دون تقديم أية حلول سياسية بديلة مناسبة .. الأمر الذي جعل هذه الأحزاب دائما وأبدا في ذيل القائمة حيث افتقدت إلى لغة التواصل مع الجماهير ، ففشلت في تكوين قواعد شعبية على مدى عشرات السنين رغم أن المصريين المطحونين الذين يحلمون بتطبيق المبادئ الاشتراكية يعدون بعشرات الملايين .. ثانيا : يجب على هذه الأحزاب الاعتراف بما يدور في كواليسها من صراع مرير على السلطة ، ومنافسة مستميتة على احتلال الصفوف الأولى ، والاعتراف بما أصابها من أمراض تضخيم الذات ، والحب الأعمى للمسميات ، والتدافع على الاستئثار بالمكسب المادي ، والهرولة للفوز بمقعد برلماني ، والتهافت على الفتات المسمى بالدعم الحكومي .. ثالثا : يجب علي هذه الأحزاب الالتزام بالضوابط العامة ، والتمسك بالخطوط العريضة ، والتأكيد على أن الجذور واحدة ، وعدم التوقف عند الصغائر التي أدت إلى ما نشاهده اليوم من تشرذم حزبي واختلاف فكري صنعته الأحزاب على يدها من العدم .. رغم أن جميع هذه الأحزاب تستظل تحت فكر إنساني ساطع بلغ من السطوع مكانة سامية جعلته يكاد يتطابق تماما مع ما دعت إليه مبادئ الشريعة الإسلامية .. وختاما إني أتساءل كيف لا يكون للفكر الاشتراكي شعبية وهو المعني بإيجاد الحلول المناسبة لهموم وقضايا الأغلبية الساحقة المسحوقة من المصريين أو هكذا يجب أن يكون ؟ ، والتساؤل الأهم هو لماذا لم نسمع صوتا للأحزاب الاشتراكية وروادها ورموزها وكوادرها حينما باع رأس النظام الفاسد في غفلة من الزمن بدعوى الخصخصة لمحاسيبه وأصهاره وأركان حكمه البائد القطاع العام الذي بناه الزعيم الخالد جمال عبدالناصر بدموع وعرق ودماء أبناء الشعب المصري العظيم ؟ .

بداية الصفحة