كتاب وآراء

التاريخ المصري المطموس

كتب في : الثلاثاء 01 نوفمبر 2016 بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري

لم يكن قد مضى على الفتح الإسلامي لمصر في عام 640 م على يد عمرو ابن العاص في عهد أعدل أهل الأرض سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما .. سوى بضعة شهور حتى ضرب القحط أرجاء شبه الجزيرة العربية فأتى على الأخضر واليابس ، هلك الزرع ، وجف الضرع ، وعم الضنك ، وانتشر العوز ..حيث أصيبت شبه الجزيرة العربية في ذلك العام بجفاف شديد ، فاسودت الأرض من قلة الأمطار ، وتحول لونها إلى الرمادي لذا سميت ( عام الرمادة ) .. فمات خلالها أناس كثيرون ، ونفقت الحيوانات ، وهاجرت الطيور .. فأكثر أمير المؤمنين ومعه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين من التضرع إلى الله سبحانه وتعالى ، وإقامة صلاة الاستسقاء ، والدعاء والابتهال آناء الليل وأطراف النهار .. بأن يكشف الله الغمة ، ويرفع البلاء ، ويرحم الأمة .

ظل ذلك البلاء جاثما على قلب الجزيرة العربية حوالي تسعة أشهر نفد خلالها ما في بيت المال من طعام ، وكساء ، وغلال ، وأموال مما جعل الخليفة الراشد رضي الله عنه مهموما هما لا يفارقه ليلا ولا نهارا حيث عم الفقر ، وساد الهم ، وضرب الجوع الكافة بلا رحمة أما الفاروق العادل رضي الله عنه فكان كما عهده الناس قدوة حسنة ، وكما عرفه التاريخ مثلا أعلى وأي مثل ؟ إنه عمر الذي أبى أن يأكل شيئا إلا الخبز والزيت حتى اسود وجهه ، وكان يقول مخاطبا بطنه حينما تكركب من شدة الجوع ( كركبي أو لا تكركبي والله لن تذوقي السمن والعسل حتى يذوقه فقراء المسلمين ) وكان رضي الله عنه حينما يرى الناس يتضورون جوعا ، والأطفال يبكون من شدة الجفاف يتأوه ويقول ( يا ليت أم عمر لم تلد عمر ) وكان رضي الله عنه يبكي حتى تبتل لحيته من هول المأساة ، وقلة الحيلة ، وشدة وقع البلاء .

حينئذ لم يجد الخليفة العادل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مخرجا للخلاص من تلك المأساة التي حلت ببلاده إلا أن يطلب العون من أهل مصر .. فأرسل إلى والي مصر عمرو ابن العاص رضي الله عنه رسالة مكونة من ثلاثة كلمات : ( واغوثاه واغوثاه واغوثاه ) .. فدعا على أثرها عمرو ابن العاص رضي الله عنه أغنياء مصر ، وكبار الكهنة ، والوجهاء ، والأعيان .. وأخبرهم بالكارثة التي حلت بشبه الجزيرة ، وأطلعهم على فحوى رسالة أمير المؤمنين .. فلبوا النداء على فورهم دون تردد ، وقدموا في الحال فائض ما لديهم من طعام ، وغلال ، ودواء ، وأموال وهو كثير دون تفكير .

جاء رد الوالي عمرو ابن العاص على رسالة أمير المؤمنين رضي الله عنهما في رسالة مكونة من تسع كلمات ( المصريون أرسلوا لكم قافلة من المؤن والأموال أولها عندك وآخرها عندي ) نعم أغاثت مصر سكان الجزيرة العربية بعد بضعة شهور من الفتح الإسلامي لمصر ولم يكن قد دخل الإسلام من أهلها سوى نفر قليل .. أثبت المصريون تاريخيا المرة تلو الأخرى في ( عام الرمادة ) ، وما قبلها ، وما بعدها أن السخاء ، والجود ، والكرم ، والعطاء جزء أصيل من طبائع المصريين جيلا بعد جيل قبل دخول الإسلام وبعده .

بعد إغاثة المصريين لعرب الجزيرة في ( عام الرمادة ) أمر سيدنا عمر ابن الخطاب عام 642 م عمرو ابن العاص رضي الله عنهما بإعادة حفر وتطهير الخليج الذي كان يربط بين نهر النيل والبحر الأحمر منذ عصر الفراعنة كممر مائي ، وطريق تجاري ، وشريان اقتصادي ، ورافد حضاري ، ورابط بشري بين الأمم والشعوب والذي كان يبدأ من منطقة فم الخليج ، مرورا بالسيدة زينب ، ثم باب الخلق ، ثم باب الشعرية ، فالحسينية ، ثم الزاوية الحمراء ، فالأميرية ، فالعباسية ، ثم يشق طريقه في الصحراء ، ويمر جزء من مجراه بموقع مجرى ترعة الإسماعيلية الحالية ، ثم يصب في النهاية في البحيرات المرة ، ومنها إلى البحر الأحمر .. وأطلق عليه حينئذاك خليج أمير المؤمنين ، وظل منذ إعادة افتتاحه في عهد الفاروق رضوان الله عليه يعمل كممر مائي يربط مصر بشبه الجزيرة وكافة أرجاء المعمورة لأكثر من مائة عام .

إن هذه الحقائق التاريخية المنسية ، وغيرها من الحقائق التاريخية الأخرى .. التي طمست عمدا في صفحات التاريخ لأسباب مجهولة .. تضعنا بالضرورة أمام أسئلة عديدة حائرة منها ما يلي : -

( 1 ) إلى متى يستمر إنكار التاريخ ، ولمصلحة من هذا التعتيم ؟ .

( 2 ) من المسئول عن طمس هذا الجزء الهام من تاريخ الأوطان ؟ .

( 3 ) ألا يدعو تجاهل مثل هذه الحقائق إلى زرع الشك وخلق الريبة ؟ .

( 4 ) من قال أن هذه الملحمة التاريخية تؤذي مشاعر أهل شبه الجزيرة العربية .. إنها ليست الملحمة الاولى ولن تكون الأخيرة ، كما أن المصريين أكبر من أن يعيروا أحدا بما جاد به الأجداد خاصة أن تضحيات الأحفاد وعطائهم لعرب الجزيرة لم ولن يتوقف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ؟ .

( 5 ) إذا لماذا لا تدرس هذه الحقائق التاريخية في مراحل التعليم الأولى في كتب التاريخ والمطالعة حتى يتعلم النشء أين كنا ، وكيف أصبحنا ؟ .

( 6 ) لماذا أغفل التاريخ تلك الفصول الحاتمية الخالصة ، وتجاهل تلك المواقف البطولية الرائعة ، وألقى الركام على تلك الملاحم الوطنية الخالدة التي تدعو إلى فخر المصريين بتاريخهم العظيم ، واعتزازهم بأمجاد أسلافهم الأولين ؟ .

( 7 ) لماذا لا ينظر القائمون على وضع المناهج التعليمية إلى تاريخ بلادهم العظيم ، ونخوة أجدادهم السابقين ، وكرمهم منقطع النظير .. الذي تجلى في أحلى صوره ، وتجسد في أعظم حالاته حينما خرجت تلك القافلة الإنسانية غير المسبوقة في تاريخ البشرية من مصر أم الدنيا ، أرض الخيرات ، وأقدم الحضارات .. إلى شبه الجزيرة العربية ؟ .

نعم خرجت تلك القافلة الكبيرة ، الطويلة ، العريضة تطوي السهول ، وتعبر الوديان ، وهي تزحف كالسيل ، وتسير كالليل ، أولها في المدينة المنورة ، وأخرها في أم الدنيا ، تحمل الأمل ، والحياة ، تحمل الطعام ، والماء ، والغلال ، والكساء ، والمال ، والدواء ، والخير ، والنماء .. نعم لبى المصريون النداء وهكذا تكون شيم العظماء حينما أغاثوا أهل شبه الجزيرة العربية فأنقذوهم من موت محقق ، ورحموهم من هلاك مؤكد ، أنقذ المصريون عرب الجزيرة ولم يكونوا حينئذ أشقاء لهم في العروبة ، ولا أخوة لهم في الدين ، ولا شركاء لهم في العادات ، ولا الأعراف ، ولا في التقاليد ، ولا أشباه لهم في الحضارة ، ولا في التاريخ ، ولم تكن توجد حينذاك جامعة عربية تربطهم ، ولا اتفاقية دفاع مشترك تلزمهم ، ولا مستقبل ولا هدف ولا مصير يجمعهم .. اللهم باستثناء رابط وحيد يتيم ألا وهو أن الجميع بنو آدم وآدم من تراب .

بداية الصفحة