كتاب وآراء

جزيرة الوراق والحقائق الغائبة

كتب في : الأربعاء 02 اغسطس 2017 - 8:01 مساءً بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري

 استيقظ المصريون صباح يوم الأحد الموافق 16 / 7 / 2017 م على الأخبار المؤسفة لاقتحام قوات الشرطة المفاجئ لجزيرة الوراق ، المحرومة من جميع الخدمات ، التابعة لمحافظة الجيزة .. التي تعد أكبر جزر نهر النيل التي يبلغ عددها 255 جزيرة على امتداد نهر النيل على مستوى الجمهورية ، إذ تقدر مساحتها بحوالي 1600 فدان ، ويبلغ عدد سكانها حوالي 60 ألف نسمة .. حيث أفاد شهود العيان كما نشر إعلاميا بأنه ما أن تمركزت قوات الشرطة في المواقع المستهدفة على أرض الجزيرة حتى شرعت في هدم بعض المنازل التي قيل أنها أقيمت على أملاك الدولة .. ورغم أن إشهار سيف القانون على رقاب الجميع دون استثناء هو مطلب شعبي قبل اندلاع الثورتين الشعبيتين وبعدهما .. إلا أن الاعتراض على الإجراءات التنفيذية لا يحدث عادة على المستويين الشعبي والنخبوي إلا حينما تغيب روح القانون بمعنى أنه لا يليق بحكومة جاءت بعد ثورتين مهمتها الرئيسية هي رعاية مصالح الشعب ، وحماية حقوقه المكتسبة بحكم المواطنة ، وتلبية مطالبه الأساسية .. أن تهدم منازل مأهولة بالسكان - حتى لو كانت مخالفة للقانون - دون سابق إنذار ، أو تقديم بدائل مناسبة تحفظ كرامة شعب يعيش في ظروف اجتماعية واقتصادية بالغة الصعوبة .. نتيجة لجرائم الفساد المستمرة التي ارتكبتها الحكومات الفاسدة السابقة وكان أكثرها استحواذا ، وأشدها ظلما أنها كرست تقسيم مصر إلى مصرين .. مصر الغنية التي تقطنها الأقلية المحظوظة في التجمعات والأحياء الراقية .. ومصر الفقيرة التي تقطنها الأغلبية المسحوقة في العشوائيات والأرياف والمناطق الشعبية . كشفت الأحداث المأساوية التي وقعت في جزيرة الوراق وما دار فيها من مواجهات دموية وما أعقبها من ردود أفعال سلبية واتهامات متبادلة بين الأهالي والشرطة على القنوات الفضائية ، وصفحات الجرائد ، ومواقع التواصل الاجتماعي .. عدة حقائق في غاية الأهمية لكن يبدو أنها غائبة تماما عن الأغلبية .. أول هذه الحقائق أن الرئيس عبدالفتاح السيسي كغيره ممن سبقوه في الحكم ، ومن سيأتون من بعده ، وغيرهم من حكام الدول الأخرى .. يرى بحكم موقعه الصورة بكامل أبعادها ، ومن جميع زواياها .. وكلما دنت المسئولية غاب جزء من الصورة وذلك على حسب طبيعة الوظيفة وعلى قدر حجم المسئولية ، وهكذا إلى أن تغيب الصورة تماما عن العوام .. اللهم باستثناء أهل الخبرة ، وذوي الاختصاص الذين يفكرون خارج الصندوق ممن يملكون قدرات عالية ، ولديهم ملكات خاصة تمكنهم من الرصد والتحليل والاستنتاج وفي ذلك يخطئ الناس ويصيبون . وبناء على رؤية الحاكم - أي حاكم - للمشهد العام .. يصدر التعليمات والأوامر والتوجيهات المناسبة ، ويرسم الخطوط العريضة للسياسات اللازمة ثم يأتي بعد ذلك دور الحكومة - أية حكومة - في دراسة هذه التوجيهات ومن ثم وضعها في خطة طموحة قابلة للتطبيق العملي على أرض الواقع لكن مصيبة الشعب المصري تكمن فيما يلمسه من تناقضات شديدة فالقيادة السياسية الحالية أهدافها واضحة ، وقضاياها عادلة ، وطموحاتها مشروعة ، وتبذل جهودا مضنية للخروج من أزمتنا الاقتصادية المزمنة .. بينما الحكومة متخبطة ، وإجراءاتها مستفزة ، وسياساتها متسرعة .. وليس أدل على ذلك من قيامها بالترجمة الفورية لتوجيهات الرئيس بخصوص جزر نهر النيل بلا رؤية ثاقبة ، ولا دراسة متأنية .. فالملاحظ هنا أن هذه الحكومة قامت بما قامت به من إجراءات تعسفية في جزيرة الوراق ظنا منها أنها تؤدي دورها في المحافظة على أملاك الدولة لكنها أغفلت دورها الأساسي تجاه هذا الشعب الغني الذي أفقرته الأنظمة الفاسدة على مر العصور .. ورغم أن الشعب هو المالك الحقيقي للأرض وما الحكومة إلا مستخدمة عليها بإرادته الحرة - أو هكذا يجب أن يكون - إلا أنها تناست بأنها مستخدمة من قبل هذا الشعب ، وتجاهلت العواقب الوخيمة لإزالة المنازل المخالفة في جزيرة الوراق دون تقديم البدائل المناسبة .. ولعل أخف هذه العواقب حدة وأقلها خطورة الدفع بقاطني المنازل المهدمة إلى الشوارع المزدحمة بالمشردين الذين بلغ عددهم أكثر من أربعة ملايين مواطن مصري مشرد .. حسب آخر الإحصائيات الرسمية لحكومة ما قبل ثورة 25 يناير الشعبية الخالدة . لكن قبل إخلاء جزر نهر النيل ، وتوفير البدائل للمتضررين .. لابد من الشفافية والمصارحة فلا يكفي تصريح أحد الوزراء بأن الهدف من إخلاء جزر نهر النيل هو تطويرها أو استثمارها .. بل لابد من وضع خطة تنموية واضحة المعالم ، وعرضها على الشعب في جميع وسائل الإعلام ، والإعلان بشكل واضح عما إذا كان المستثمر مصري أم عربي أم أجنبي .. كفانا ضحك على الذقون فقد اكتوى هذا الشعب المطحون قبل ذلك من أكاذيب الحكومات السابقة مرات عدة .. لعل من أشنع تلك الأكاذيب وأشدها بجاحة وقبحا ما صرح به أحد أركان النظام الأسبق بعد الفشل المدوي لمشروع توشكي بقوله ( نحن لم ندشن مشروع توشكي من أجل استصلاح الصحراء ، ولكن كي نرسخ في الوعي العام لدى هذا الجيل والأجيال القادمة بأننا نستطيع غزو الصحراء ) !! . أما الحقيقة الثانية الغائبة فهي الأشد خطورة حيث تكمن في الشجاعة النادرة التي يتحلى بها الرئيس عبدالفتاح السيسي والتي جعلته يغامر من أجل هذا الوطن مرتين .. المغامرة الأولى كانت حينما وضع حياته على كفه في لحظة تاريخية فارقة بعدما اتخذ قراره التاريخي - كقائد للقوات المسلحة المصرية الباسلة - بالانحياز الكامل لإرادة الشعب المصري العظيم الذي خرج بالملايين من كل فج عميق في ثورة 30 يونيو الشعبية الخالدة ضد الإقصاء والتمييز معلنا رفضه لتجار الدين ، ومطالبا بالتغيير .. أما المغامرة الثانية فتظهر واضحة جلية في تضحية الرجل بشعبيته وإيثاره لمصلحة الوطن على مصلحته الشخصية .. وذلك بعدما أعلن الحرب على الفساد الذي توغل في المؤسسات وهذا معناه الصدام المباشر مع مصالح ناهبي المال العام وهؤلاء يمثلون قلة قليلة لكنهم مراكز قوى لها خبرة طويلة في العملية الانتخابية ، وتملك قوة تأثير كبيرة على الكتل التصويتية .. في الوقت الذي يمضي فيه الرئيس عبدالفتاح السيسي قدما في سياسة الإصلاح الاقتصادي .. ولعل من أبرز عناوين هذه السياسة إعادة النظر في استغلال الموارد العامة ، ورفع الدعم الموجه للفقراء والمعدمين الذين يمثلون الأغلبية الساحقة التي تعيش حالة من البؤس واليأس والغليان المكتوم .. لذلك يجب علينا جميعا أن ننتبه قبل فوات الأوان ، وأن نعترف بعد ثورتين بأن هذه الأغلبية المنسية أصبحت جزءا مهما في المعادلة السياسية .. حتى لا ينجح أعداء الوطن من خونة الداخل ومحرضي الخارج في تصوير المشهد السياسي من تقلص في الشعبية إلى تآكل في الشرعية . أما الحقيقة الثالثة فهي أن أملاك الدولة تعتبر أهم مواردنا الاقتصادية على الإطلاق وأكثرها دخلا للخزانة العامة .. لذلك نلاحظ أن الرئيس عبدالفتاح السيسي لا يلو جهدا ولا يدخر وقتا في إعادة النظر في الموارد الاقتصادية بشكل عام وخصوصا أملاك الدولة سواء الموارد المهدرة أو غير المستغلة لتحقيق الاكتفاء الذاتي ، ومن ثم الاستغناء الكامل عن القروض الدولية ومعونات الأصدقاء ومساعدات الأشقاء ، وتجنيب البلاد من ويلات ما يترتب عليها من تأثيرات سلبية على سياستنا الداخلية وقراراتنا السيادية من أجل تحقيق الاستقرار العام والنهوض بالأوطان .. وانطلاقا من هذه الحقيقة أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسي .. توجيهاته بتحويل جزر نهر النيل من المنزلة لغاية أسوان من عشوائيات سكنية إلى مناطق استثمارية .. وكانت البداية بطبيعة الحال جزيرة الوراق المكتظة بالسكان .. ولأن حكومتنا الحالية لا يهمها الأداء الجيد ، ولا يعنيها القبول الشعبي .. لذلك اتخذت تلك الإجراءات العشوائية المستفزة ، واستعملت العنف غير المبرر في هذه الظروف السيئة التي يعيشها المصريون في ظل هذا الغلاء الفاحش الذي فاق كل التصورات ، وأتى على الأخضر واليابس .. ولم ينجو من تبعاته السلبية إلا كبار الحرامية ، وتجار السلاح ، والآثار ، والمخدرات . والحقيقة الأخيرة الغائبة عن أذهان الأغلبية الساحقة هي أن حقوق الدولة طبقا للقوانين المعمول بها لا تسقط بالتقادم خصوصا فيما يتعلق بالأراضي المملوكة لها .. بمعنى أن علاقة الدولة بالأفراد من الناحية القانونية تختلف عن علاقة الأفراد بعضهم ببعض .. فعلى سبيل المثال لا الحصر من حق الدولة قانونا استرداد الأراضي المملوكة لها في أي وقت مهما طالت مدة وضع اليد عليها ، وسواء كان وضع اليد قائما بموجب حيازة قانونية ، أو كان بلا سند من القانون ، وأي كان شكل التعدي على أملاك الدولة ، ومهما كان نوع أو حجم إشغالها .. ولا حجية هنا لوضع اليد للمدة الطويلة ( خمسة عشر عاما ) المكسبة للملكية كما هو الحال في علاقة الأفراد بعضهم ببعض .. فما ينطبق على الأفراد لا ينطبق على الدولة .. كما يحق للدولة أيضا الرجوع إلى المشتري شخصا طبيعيا كان أو اعتباريا بفارق سعر الأرض في أي وقت وبأثر رجعي فيما لو تغيرت طبيعة استغلال الأرض .. كما لو كانت مثلا أرضا زراعية وتحولت إلى سكنية وما شابه .. ليس هذا فقط بل يحق للدولة أيضا في أي وقت نزع ملكية الأراضي الخاصة المملوكة للأفراد أبا عن جد للمنفعة العامة سواء كانت عقارا أو أرضا زراعية أو سكنية .. وفى كل الأحوال السابقة لا يحق للدولة في أي عصر وتحت أي ظرف أن تطبق أي إجراء مما تقدم مالم تدفع للمتضرر التعويضات القانونية اللازمة . وختاما أقول لا يختلف مواطن مصري حر أصيل على حق الدولة في إزالة التعديات وهدم المباني المخالفة للقانون في جزيرة الوراق ، أو في غيرها من الجزر النيلية ، أو في أي منطقة أخرى على مستوى الجمهورية .. لكن السؤال الذي يفرض نفسه ويحمل إجابته هو كيف تسمح الدولة لنفسها أن تطلق سراح الجاني وتعاقب الضحية ؟ .. ففي الحقيقة والواقع الدولة تعاقب المواطن الفقير البائس الذي أقام منزلا بالمخالفة للقانون ، وتترك المسئولين الفاسدين السابقين الذين غضوا الطرف عن هذه التعديات نظير الرشاوي والإتاوات ، وتركوها تنتشر في ربوع الوطن كالسرطان دون اكتراث أو حياء أو وازع من ضمير ، فضلا عن تورطهم المعروف في إراقة دماء المصريين .. وبالرغم من تاريخهم الحافل بالإجرام لم تصادر أموالهم ولم تصدر ضدهم أحكام بالإعدام .. نتيجة للأخطاء الفادحة التي وقعت فيها ثورة 25 يناير وأولها عدم إنشاء محاكم ثورية نظرا لغياب الإرادة السياسية ممن كان بيده السلطة عقب الثورة مباشرة .. فحاكمتهم الدولة بموجب القانون الذي صنعوه بأيديهم تحسبا لهذا اليوم المشئوم .. لذلك برأهم القضاء لاحقا من كافة الجرائم التي ارتكبوها ، وتصالح معهم جهاز الكسب غير المشروع عن جرائم النهب المنظم مقابل الفتات بعدما سرقوا مئات المليارات .. وهذا معناه بمنتهى الصراحة والوضوح أن المؤسسات بشكل عام تطبطب على كبار اللصوص .. في الوقت الذي تفرض فيه الروتين ، وتمارس العنف المقنن ، وتضع العراقيل أمام الفقراء والمهمشين أصحاب البلد الحقيقيين الذين اضطروا إلى مخالفة القانون في ظل غياب كامل لدور الدولة .. وإني لأعجب كيف تحرم هذه الحكومة نفسها من ذكاء الاستفادة من التجارب السابقة ؟ .. ولماذا لا تعترف بالتغيير ، ولا تؤمن بثقافة الاعتبار ، ولا تتعظ من أخطاء السابقين ؟ .

بداية الصفحة