الأدب

الأرْواح النَّافِرة

كتب في : الأربعاء 08 اغسطس 2018 - 12:42 صباحاً بقلم : ختام حمودة

كانَتْ لَحَظاتُ الخَريفِ الْمُهَجَّنِ مَحَمَلةً بلَسْعةِ الرَّياحِ القطبية العَتيقةِ الَّتي اعْتادَتْ أَنْ تُمَرِّغ رُؤوسَ الأشْجارِ العِمْلاقَةِ تَحْتَ الغَيْمَةِ العالِقَةِ وَتَحْمِل أَوْراقَها بِحرَكةٍ بَهْلوانيّة ثُمَّ تَذْرُوها مِنْ جَديدٍ .

تَهَوِّمَتْ (2) الأرْواحُ العالِقةُ فَوْقَ أقْواسِ البُرْجِ القَديمِ التي تمتَدُّ ذِراعهُ الحَمْراء إلى الطَّاقِ المعقودِ بِحاشيةِ التَّاريخ المَخْفي في القصور الملكية والدَهاليز المحرّمة.

في ذلكَ الشَّارع الأثَري الذي رُصِفَ في العُصور الوُسْطى بالبلازما البَشَريَّةِ اعْتاد ساكِنو الحيِّ عَلى رُؤْية المشْهد المُكَرَّرِ في اللَّيالي البارِدة لِوَجْهِ الفَتاة الضَبابِيَّة ذات الشَّعْر الأحْمَر التي أُعْدِمَتْ قَبْلَ ثلاثة قُرونٍ منْ نافذةِ البرْج القَديم .

ثَمَّة أشْباحٍ هُنا وَهُناكَ تُثير خَشْخَشَة أوْراق الخَريف المُتَيَبِسة الَّتي اكْتَسَتْ باللَّونِ الزَّعْفراني الدَّاكن وَتَطايَرَتْ في كلِّ مَكانٍ .
على الضفة الثانية تجمهر حَشْد منْ حَمَلَةِ آلة التَّصْوير الفُوتوغْرافيّ كالمعتاد على الزاوية الضيقة التي تقع في الشارع المقابل للمنزل الذي تقطنه بيترا المعيدة في التاريخ الأوروبي في جامعة *** ذات الأصول التي تمتدّ إلى الجَنوب الآسْيَوي من جهة الأب والغَرب الأروبي من جِهَة الأم .. وبدَتْ تحمل الملامِح الأوروبية التي ورثتها عن جدَّتها الفرنسية .

بدتْ قبَّعات الكاتِدرائية التي اكْتَستْ بالَّلون النُّحاسيّ الّذي تمازَجَ معْ ثَرْثَرة الغُيوم المُلبَّدة بالتَّكهُّنات المُقْلِقة وتَدافعتَ أنْفاسُ البُوق الأكْبر لِرَفْع التَّراتيل المُتَوَاتِرٍة التي رَوَّعَتْ أسْرابَ الطُّيورِ الهارِبَةِ مِنْ لَسَعات المَوْت والأقدار المُحْتَبَسة عَبْر مَتاهات الصَّفْصاف الذي الْتَهم نِصْف الأراضي الأروبية بَعْدَ أنْ أخْبرَت العَجوزُ العَمياءُ عَن السِّر الَّذي يكْمن تَحْت قُشور الشجرة وفعله في تَسْكين الآلام.(3)

كانت الظِّلالُ تُلاحق فلول الشمس التي غرَزتْ حَرْبَتَها بزاوية قائمة في خاصرة الأرض التي تتعامد عليها عند منتصف النهار.

تكاثَف الضَّباب البَرْزخيّ و غَطى أجْنحةَ البَجَعات الغافِية فوْقَ البُحيْرةِ التي اكْتَستْ بِطبَقةٍ هشَّة من الجَليد الزُّجاجي. وتململتْ الأرواح السَّاكنة عِنْدما هبَّت الرِّياح الصَّفراء عبْرَ المَمرِّ العُشْبي القَديم لتُمَشَط الأغْبِرة المُترسبة على أقْبية القُبور المُتناثرة بعيدا عَنْ مَسيل الماء خَلف المُنْحدر الجَبلي

ثمَّة قبر مُتآكِل مَنحته الظَلالُ الرَّاحة البَعضيّة (4)قبْلَ أنْ تفتتهُ جُذورُ الشَّجَرة المُتَعَملقة فوْق أشْجار العَرْعر المُعَمرة وَبعض الأحْجار المُتَهالكة الَّتي ألْبَستها الأرضُ لوْنَ الطّين الذي اخْتلط بالرَمال الصَّفراء التي تَرْتفعُ فوْقَ الطَّبقة الكِلسية المتشكلة من تمازج الهياكل الآدمية مع المكوّنات الطبيعية الأخرى.

بدت بيترا كَأَنِّها تَنْظُرُ إِلَى شقٍ قديم في القَبر تَفَسَّخ بفعل الطبيعة البرَّية المُتنافرة .

كانَ القِس يلازمها في كلّ مَكانٍ وزمانٍ يَظْهرُ فجأة ثمّ يخْتَفي دونَ سابق إخْطار.
في مرَّة من المَرَّات سألتهُ عَن ماهية حرْكة إصْبعه الذي اعْتاد أن يمرره بحَركة دائرية على خاتمه الأرْجواني ..
أجابَ القس عنْدما تَمْتلكين الحاسّة السادسة سينقشع الحجاب شيئا فشيئا وسترين الشمس مجردة من هالتها بعينيك الجميلتين

أشاحتْ بيترا رأسها نحو أسراب الطيور المهاجرة وتمتت أنتِ أيضا عليكِ لعنة الشتات.
....
بقلم ختام حمودة

بداية الصفحة