الأدب
قراءة تحليلية ومراجعة لرواية ( تغريدة عشق ) للروائية هالة البشبيشي 'الجزء الأول'

دين العشق لا مذهب له
عبارة اختتمت بها الكاتبة روايتها ضمن فقرة تعلو ظهر الغلاف الذي تميز بألوان ترابية ومشهد من حلم وطبعتها الثالثة الصادرة عن دار تويا للنشر والتوزيع يناير ٢٠١٧
حيث يلفتك اختيار التصميم ليد تتمسك بوريقات من غصن خضراء صغيرة خلفها حمامة السلام البيضاء رافعة جناحيها استعدادًا للتحليق عاليًا تلك اليد المُترنِّحة إلى جانب فتاة لا يظهر منها إلا جزء من ذراعها مغطَّى بأكمام من الدانتيل كجزء من رداء أبيض يختلط لونه بألوان الأرض الترابية ويمتزج بها مما يوحي بعالم من الخيال أو أنك ستُقدم على قراءة قصة من الماضي البعيد قام بالتصميم/ عبد الرحمن حافظ
والإخراج الداخلي/رشا عبد الله حيث يمكنك فتح الرواية لتسمع تغريد الطيور من أول وهلة ليرتسم على الصفحة الأولى مجموعة من الطيور الصغيرة المهاجرة في سرب يحمل أول طائر فيه اسم تغريدة عشق في أرجله لتشعر أنك ستقرأ رواية رومانسية كانطباع أول
ثم تجد الإهداء يتميز بلمحة صوفية... إليك يا من امتلأ به زماني، فأصبح غدي أمسي، ويومي أنت!
تُرى مَنْ المقصود أهو حبيب بالمعنى القريب أم حب الله الذي يمتلئ به قلبها وروحها لتُعبِّر عنه كترنيمة عشق صوفي ثم تنهي بتوقيعها المرح بشبيشاية!
نعود للتعجب مرة أخرى لمن الإهداء ولمن الدلال؟ وإلام تشير بتعبيرها "ويومي أنت! "
ثم التمهيد بالصفحة السابعة .. وذات عشق تلاقى الوجد والوصل فانبعثت الآه ملء الكون....
يجد القارئ نفسه فجأة وسط مشاعر وتغريدة تمتلئ بأنهار الحزن ليتنبأ بما ستكون عليه الرواية وأنه مقبل على دراما بكل معانيها وبالصفحة التاسعة تُلقي بتغريدتها.. ومقولة جلال الدين الرومي "من دون الحب.. كل الموسيقى ضجيج.. كل الرقص جنون.. كل العبادات عبء.." في إشارة منها لقوة تأثير الحب على شعور الإنسان فلا يسمع إلا موسيقاه ولا يرقص إلا رقصة العشق والتعبُّد في محراب الحبيب سعادة لا توصف ... ثم نُحلِّق مع طيورها المهاجرة لتبدأ حكايتها التي تُشعرك بأساطير الأولين
تنقسم الرواية لعدة فصول تلاحظ أنها معنونة تارة بأسماء أشخاص أو حالة من الحالات الشعورية كاختيارها "حنين"،"غربة"."فريد"،"ندى"،"ليلى"،
لإضفاء طابع من الأهمية لتلك الأسماء وهذه الحالات التي يتمحور حولها كل فصل من الفصول وانتهاءًا بتغريدة عشق وتغريدة شكر لله ولزوجها ولأبنائها وأصدقائها ... بمراجعة الفصل الأول حنين نجد المؤلفة استهلت بالفعل قررت حيث اتخاذ قرار لا رجعة فيه بالإفصاح ونتساءل مَنْ سيفصح هل هي المؤلفة التي ستسرد سيرة ذاتية أم بطلة الرواية التي لا نعرفها بعد؟
وبعد الاسترسال في كلمات تتحدى العرف والتقاليد وصراع وتحرر من القيود والتي استخدمت للتعبير عنها الصورة الجمالية "قررت أن أتجاوز قيودي التي صُنعت لتكبيل حواء داخل حواء" وكأن القيود تُكبِّل شعور المرأة الأنثى داخلها وكأنها امرأتان واحدة داخل الأخرى الظاهرة للجميع الملتزمة بالأعراف والتقاليد والأخرى الثائرة المختبئة وراءها القابعة في محيطات جليدية ثم يأتي التعريف بالمكان والنشأة بالعباسية بمصر وذكريات البطلة التي تجعل حواسها تمتلئ بعبقها فتفوح بعبير المراهقة والصبا واستخدامها هذه الاستعارة المكنية حيث جعلت للمراهقة عبير ورائحة خاصة كعبير الزهور... وتستمر بالسرد على لسان البطلة لتصور لنا أصالة وعراقة الحي الذي نشأت فيه حيث الأثرياء وعلية القوم ولكن لم يهنأ هذا الحي بطابعه الخاص وإذا به يتحول سكنًا للطبقة المتوسطة من الموظفين والعمال وتضخم المؤلفة من رونق الحي لتصفه بالدولة المتكاملة لما به من مدارس ومستشفيات ومصالح حكومية ومتنزهات وأخذت تحدثنا عن شخصيات كبيرة سكنت الحي كالأديب نجيب محفوظ وشخصيات سياسية عبد الحكيم عامر وشخصيات فنية كفؤاد المهندس والموجي والعديد من الأسماء اللامعة والتي لها دور بارز في المجتمع... ثم تطرقت للوصف الكامل والتعريف بالشوارع والأسواق وتكمل البطلة الحديث عن نفسها حيث استخدمت المؤلفة أسلوب المتكلم في حديث البطلة عن عائلتها وعلاقتها بكل أفرادها من أخوة وأب وأم وقربها من أخيها الصغير عادل الذي اختصته بدورها كأم له فكانت تقص عليه الحكايات التي حكتها جدتها لأمها وبعض مما قرأت لتعلمنا بشغف البطلة للقراءة
١_ الانفعالات.... قسوة الأم وصرامتها في التعامل معها وأخوتها وممارسة دور الرقيب يوضح لنا البيئة التي نشأت فيها بطلة الحكاية واهتمام الأم بالدراسة والتحصيل واستخدام أسلوب الثواب والعقاب
٢_ الشخصيات وتتابع ظهورها بعد البطلة شخصية الأم الصارمة ثم عادل الأخ القريب لها ثم الأب المدرس بأعرق المدارس بالعباسية "مدرسة فاروق الأول" وكان متوسط الدخل وعائل الأسرة الوحيد الأستاذ محمد ابو الفتوح مدرس اللغة العربية الفاضل الذي له دور بارز في حياة ابنته بطلة القصة حيث كان تعلقها باللغة العربية بسببه وهوايتها في سماع الشعر والتغني به بصحبته في استمتاع بالغ الأثر
٣_ التصوير ... استخدام الصور الشعرية في وصف الأبيات الصوفية والموشحات التي أحبتها البطلة حيث استخدام التعبير " كأنها تعزف لحنًا بآلات موسيقية من نور وأصوات من السماء تحملني معها فوق السحاب" كأشعار الحلاج وعشقها لأسلوب أبيها في إلقاء الكلمات والتغني بها حيث ذكرت"صوت أبي ذو البحة المحببة الودودة لنفسي يحلق معها وكأنه آتٍ من الماضي في مراكب من فضة تسبح فوق نهر من أنهار الجنة "
كلها صور جمالية توضح قوة تأثير الأب على بطلة الرواية وحبها له
٤_ الحديث عن صفات البطلة وتميزها في الكورال والخطابة والموسيقى والرياضة لما ورثته من منظومة متكاملة أسسها أبوها فيها... تميز البطلة وسط زملائها بالمدرسة وأخوتها وتفوقها الدراسي... ويأتي وصف البطلة للعواطف الداخلية التي تتجه دائمًا نحو الأب السعيد بها الداعم لها بينما تصف شعور الأم نحوها بأنه عادي فالطبيعي أن تتفوق ولم تنظر لها بعين الرضا أبدًا، وهنا تجد بداية الصراع النفسي داخل البطلة من علو قدر الأب ورضاه عنها ومعاملة الأم العادية لها دون تشجيعها...
٥_ أسلوب السرد يمتاز بالتشويق ووصف كل كبيرة وصغيرة في حياة شخوص الرواية والبيئة المحيطة... ولم تهمل المولفة الشخوص الثانوية بالرواية كميرفت ابنة الجارة جانيت وحفل الزفاف والإكليل بالكنيسة وعريسها صادق....
٦_ تلقي الرواية الضوء على حقبة زمنية تلاحمت فيها الديانة المسيحية مع الإسلامية فلا تفرقة بين مسلم ومسيحي حيث سادت مشاعر المودة والحب بينهما وحضور مناسبات بعضهم البعض وإقامة الشعائر الدينية بحضور الجميع والاحتفال بشهر رمضان معًا وتعليق الزينة بتعاون الجميع والفرحة السائدة التي عمَّت الحي
أسلوب الروائية البارع ظهر لنا في تصويرها للعادات والمناسبات حيث استطاعت أن تشعر القارئ بالسعادة وتذكُّر طفولة كل منا وصباه وفوانيس رمضان والأوراق الملونة المعلقة بالشوراع والموائد والدفء العائلي وعلاقة الجيران والترابط بينهم.... لم تغفل المؤلفة أي دور من أبطال روايتها ذاكرة دور عم سعيد المسحراتي في رمضان والشيخ محفوظ معلم تلاوة القرآن
بناء الشخصية المحورية:-
بناء شخصية البطلة ونموها ومراحل طفولتها البريئة ونشأتها الدينية على الصلاة والصيام وطاعة الله والأهل وحفظ القرأن
الخوف والهيبة من العنصر الذكوري والذي تمثَّل في مراهقتها في شخصية ا. صلاح المدرس والذي حيَّرها بشخصية الطيب الشرير مفتول العضلات المتحول لشرير أثناء الدرس وانقلابه للطيب مقيم الأذان والصلاة وبداية تعرفها على الحب وانجراف خيالها إلى مشهد الثوب الأبيض والعروس بجانبه
محبة الجميع لبطلة القصة وتوددها للجميع يخلق جوًّا من الألفة يجعلك لا تتوقف عن القراءة
شخصية عم مهدي غفير المسجد والمستوصف وحكاياته مع الأشباح حيث برعت المؤلفة في وصف الشخصية وشغفها بحكاياته
شخصية الأم من الشخصيات الهامة والمحورية حاملة لواء القواعد والأصول والشدة في معاملة أبنائها وخاصة البنات بمقولتها اكسر للبنت ضلع يطلع لها اربعة وعشرين ورغم هذا بدت كأم مصرية محبة لأبنائها ولفعل الخير وكان لها دور في بناء شخصية بطلة الرواية ابنتها
الغربة وإعارة الأب إلى بلد خليجي بمنطقة جبلية وسرد تفاصيل الرحلة والطيارة يجعلك تعيش أجواءها معهم وتدرك أهمية السفر بحثًا عن لقمة العيش وتأثير ذلك على الأبناء وخاصة بطلة الحكاية لقسوة وجفاء الحياة التي تبتعد كل البعد عن حياتهم بمصر المليئة بالنشاط والناس والحركة واللقاءات الممتعة بالأصحاب والجيران
خرَّاط البنات والتعبير الشعبي الذي استخدمته الأم للتعبير عن مرحلة جديدة من مراحل حياة بطلة القصة ابنتها ندى التي ظهر اسمها أخيرًا بمنتصف الفصل الثاني "غربة" تشعر كقارئ للرواية أنك داخل فيلم عربي أبيض وأسود قديم وقصة عائلة مكافحة من الطبقة المتوسطة ملتزمة بالعادات والتقاليد حيث العنصر الذكوري هو العائل وصاحب المهام الصعبة والعنصر الأنثوي دوره الخضوع وعدم الخروج عن الأعراف وأساس دور الأم هو التربية بالحزم والشدة ودور الأب جلب المال والسعي على الرزق
خجل بطلة القصة من تكوينها الأنثوي وهذا الشعور الذي كانت تبثه لها والدتها بطريقة غير مباشرة ظنًّا منها أن هذه هي التربية السليمة حفاظًا على بناتها
أظهرت المؤلفة في رشاقة الصراع الطريف والغيرة بغير حقد بين الأخوات البنات نهى وندى ونسمة حيث توسطت ندى بطلة الرواية أخواتها البنات
توضيح الروائية بداية الصراع الداخلي لبطلة القصة ندى حيث نشأتها على مبادئ الأم وان البنات هموم ويجب تزويجهن للتخلص من همهن فهن بمثابة عبء على أبيهن وأمهن حيث تجهيزهن ومتطلبات الزواج
تطرقت الروائية لحياة النساء في المجتمعات العربية وخاصة الخليجية من عدم الاختلاط بين النساء والرجال والفكر المنغلق ورؤية النساء للرجال فقط في الأفلام والمسلسلات التليفزيونية فالمرأة لا ترى زوجها إلا عند الزواج فقط وأظهرت هذا في حب البنات لحكايات ندى عن مصر وأولاد الجيران وعلاقاتهم والعطلات والمتنزهات والشواطئ وما عاشته ندى قبل مجيئها إلى الخليج حيث خروجها مع عائلتها
انغلاق المجتمعات والعادات والتقاليد البالية وتأثيرها على الفتيات في مرحلة المراهقة والترهيب من العنصر الذكوري وعدم السماح بالحديث عن الشعور أو التغيرات النفسية والفسيولوجية للأنثى وتأثير ذلك على فكرها وامتثالها للواقع وتخوفها من المجهول
نجد الروائية تطرح عمقًا آخر وتحاول الإشارة إلى كيف يكون البناء النفسي للمرأة وأخطاء الأهل في التربية ظنًّا منهم أن هذه هي التربية السليمة ليبعدوا الأبناء عن الانحراف والتفكير غير السوي بسياسة المنع والقمع والترهيب دون النقاش واتباع أساليب التربية القويمة
كانت هذه بعض النقاط التي تم إلقاء الضوء عليها برواية هالة البشبيشي وتغريدة عشق والتي أرى أنها تحكي جزء كبير من الواقع بأسلوب سلس وتسلسل للأحداث يتناسب مع موضوع تهدف إلى طرحه بقوة والاهتمام به مستخدمة الصور الجمالية والخيال حتى لا يمل القارئ ويرى الرواية بحواسه ومشاعره ويتفاعل مع أبطال الرواية وتأثير كل شخصية على الأخرى بالعلاقات المختلفة على مستوى الأسرة والبيئة المحيطة سنرى ماذا سيحدث لندى بطلة الرواية وما الذي سنخرج به من استنتاج ودروس متعلمة من حكايات واقعية تحدث بعالمنا
يُتبع بالجزء الثاني..