كتاب وآراء

الجندى محمد صلاح شهيد أم ضحية ؟

كتب في : الأحد 16 يوليو 2023 - 7:04 مساءً بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيرى . المحامى

 

لا يمكن لأحد أن يصيب كبد الحقيقة في تقدير المواقف، وتقييم الأحداث ، وإصدار الأحكام نتيجة لرؤية أحادية بل لابد من النظر للأحداث التي تدور حولنا من كل الجوانب باعتبارها جزءا لا يتجزأ من كل ممتد ومترابط ..

فالنظرة الشمولية للأشياء بصفة عامة ليست مجرد فكرة عابرة تطبق لمرة واحدة بل هي أسلوب حياة ومنهج علمي وطريقة تفكير متجددة من الضروري أن يتسلح بها من أراد الوصول للحقيقة ... ذلك لأنك ببساطة شديدة تستطيع من خلالها أن ترى الصورة من زواياها الأربعة .. خصوصا إذا كانت القضية المنظورة أمامك من القضايا المتعلقة بأعظم شعوب الخليقة ، وإبداعه اللامتناهي في السلم والحرب فما أن تعتقد تماما أنك وصلت لقمة الدهشة والانبهار بما تتابعه وتراه من أمجاد وعظمة وبطولات المصريين حتى يعود هذا الشعب العظيم فيبهرك مجددا . ومن هنا نبدأ .. فنقول إذا كانت الحكومات لديها من الضروريات الحتمية .. ما يتطلب منها الحكمة والروية في إدارة شئون البلاد، بحكم ما يقع على عاتقها من مهام ومسئوليات وما تلتزم به من مواثيق ومعاهدات فإن للشعوب اختياراتها العفوية النابعة من مآثرها الوطنية وخبراتها التاريخية ، ولعل هذا ما يفسر لنا الفرق الشاسع بين الموقف الشعبي الذي يرى محمد صلاح المعجون بتراب أرض هذا الوطن بطلا وشهيدا .. وأن ما قام به على أرض فلسطين المحتلة عمل بطولي عظيم ، يتمنى القيام به كل مواطن مصري أصيل وهذا ليس غريبا على هذا الشعب العظيم الذي ناضل وما يزال من أجل قضايا أمته العربية وحقوقها المشروعة في كل زمان ومكان ، ولم يعرف طوال تاريخه المنظور عدوا غير إسرائيل .. وبين الموقف الرسمي الذي يرى ما حدث على حدودنا الشرقية لا يزيد عن كونه تصرف فردي من عنصر أمني ولا يعبر عن السياسة العامة للدولة التي تربطها بإسرائيل معاهدة سلام وما يترتب عليها من التزام متبادل بعلاقة حسن الجوار . وهذا لا يتعارض مع إيمان الدولة بمسئوليتها الكاملة تجاه القضية الفلسطينية وإلا ما خضنا من أجلها الحروب وما تخلفنا بسببها عن النهوض وما ربطنا الأحزمة لعدة عقود وما قدمنا في سبيلها 120 ألف شهيد من أنبل وأعز وأشرف من أنجبت مصر .. وكل ما في الأمر أن قواتنا المسلحة سواء الجيش أو الشرطة هي قوات وطنية نظامية محترفة تؤمن بعقيدة قتالية راسخة تقوم على أسس وقواعد منظمة وتحكمها ضوابط قانونية صارمة في حالتي الحرب والسلم، يضاف إلى ذلك أن تحركات قادتها وجنودها في الميدان مرسومة ومحددة وموقوتة وفق خطط مدروسة ولا مجال فيها للارتجال أو الانحراف عن المسار، ولا يسمح لأحد أن يتجاوزها بأي حال من الأحوال ... وأي إخلال بما تقدم يحاكم مرتكبه فورا .. طبقا للقوانين العسكرية المعمول بها مهما علت رتبته ومهما كان موقعه . أما هذا الشعب العظيم فمن حقه أن يفخر بابنه الشهيد البطل محمد صلاح الذي وصف أحد الخبراء عمليته الاستشهادية بأكبر ضربة وجهت للعدو الصهيوني منذ حرب 1973 م فقد استطاع بمفرده أن يقتحم الحدود ، ويخترق الحصون ، ويقتل 3 جنود ، ويصيب عددا آخر ويواجه كتيبة كاملة مدججة بأحدث الأسلحة قبل أن يلقى ربه شهيدا ، بعدما هز كيان العدو ولقنه درسا قاسيا وقضي على أسطورة جيشه (الذي لا يقهر) وكشف زيف قوته العسكرية وأثبت هشاشة منظومته الأمنية وأقلق مضاجع حكامه وأربك قادته وأرعب جنوده، ولسان حاله يقول لهم ستبقى روحي هائمة على الأرض تلاحقكم دون هوادة . والحقيقة أن عملية استشهاد البطل محمد صلاح أظهرت التلاحم الشعبي الكبير الذي يمثل الضلع الرابع في مربع الرعب الذي دخلته إسرائيل ولن تخرج منه أبدا، وكي نعرف حجم الرعب الحقيقي الذي يعيش فيه العدو الإسرائيلي ، لابد أن نأخذ فكرة أولا عن أضلاع هذا المربع المرعب أما الضلع الأول منه فهو ثورة التنمية والبناء والتعمير والتحديث والتطوير التي تمخضت عن مشروعات عملاقة ليس لها مثيل لعل أصغرها حجما تطوير بحيرة عين الصيرة التي حولها السيسي من مقلب زبالة إلى مزار سياحي وأهمها على الإطلاق مفاعل الضبعة النووي .. وما بينهما من مشروعات كبرى مثل النهر الصناعي ومنخفض القطارة والتي وضعت مصر في مصاف الدول الجاذبة للاستثمار الأجنبي . وسيتم تتويج هذه الجهود الجبارة بانضمام مصر الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى لمنظمة بريكس وهي عبارة عن تكتل اقتصادي يسعى لكسر هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي والتخلص من نظام القطب الواحد .. والدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب تضم منظمة بريكس كل من روسيا، والصين، والهند، وجنوب أفريقيا، والبرازيل ... وتعد منظمة بريكس أقوى التحالفات الاقتصادية في العالم وأسرعها نموا . والضلع الثاني هو تنويع مصادر تسليح القوات المسلحة وتزويدها بأحدث الأسلحة المدمرة وتصنيعها محليا وتطويرها بسواعد وعقول خير أجناد هذه الأرض، والذي انطلقت عجلته منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة ولن تتوقف إلى قيام الساعة ، والضلع الثالث هو شراسة المقاتل المصري الذي عرفه الإسرائيليون واختبروا جبروته ، واكتووا بنيرانه واحتاروا في صبره وقوة تحمله ... وماتوا فزعا ورعبا من بسالته وإقدامه وشجاعته على جبهات القتال .. منذ حرب 1948 م وحتى الآن . أما الضلع الرابع فهو التفاعل الشعبي الكبير مع الشهيد البطل محمد صلاح حيث امتزجت الدموع بالابتسامة في البيوت والحواري والشوارع والميادين العامة، وتبادل الناس التهنئة في دوائر العمل والمدارس والمزارع والمصانع ودور العبادة ....... ولم تكن حالة الاحتفاء الشعبي بهذه الموقعة مفاجئة للعدو بقدر ما كانت صادمة وموجعة مما يؤكد مجددا على أن هذا الشعب العظيم الذي افتخر بالشهيد البطل محمد صلاح وترحم عليه وأعلن تضامنه مع أسرته هو فعلا أول من يوقع لكنه لن يطبع حتى تعود الحقوق العربية المغتصبة، وإلى أن تعود هذه الحقوق ستظل إسرائيل هي العدو الأول لهذا الشعب العظيم . وللتأكيد على ما تقدم ما علينا إلا أن نتذكر أنه في أوائل القرن الحالي أظهرت نتائج استبيان شمل عشرات الملايين من جميع الطوائف ومختلف الطبقات والأطياف أن نسبة 87% منهم قالوا أن القضية الفلسطينية هي أكثر ما ينغص حياة الأسرة المصرية بينما كان من المتوقع أن تكون إجابة الغالبية العظمى ممن شملهم ذلك الاستبيان عن غلاء المعيشة مثلا أو انتشار الأمراض الفتاكة أو استيراد المبيدات المسرطنة أو تدني مستوى الخدمات العامة .... وهذا معناه أن هذا الشعب العظيم رغم أنه يعاني من مشاكل اجتماعية مزمنة ، وأزمات اقتصادية طاحنة لكن إيمانه الراسخ بالقضية الفلسطينية لم يتزعزع أبدا، بل جعلها في مقدمة أولوياته الحياتية ورغم أن هذه القضية هي في الأساس قضية عربية بل وإسلامية أيضا، لكن مصر شعبا وجيشا وقيادة تعتبرها قضية مصرية خالصة، وما الشهيد البطل محمد صلاح الذي لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين إلا واحدا من هذه الملايين من المصريين . ورغم أن ما تقدم هو الحقيقة المطلقة .... لكن هذا لا تمنع أبدا من تسليط الضوء على بعض الأصوات المصرية الأخرى التي انطلقت هنا وهناك وانتشرت على السوشيال ميديا والتي ترى أن ما قام به الشهيد البطل محمد صلاح على حدودنا الشرقية .. لا يعد إلا تضحية ممن يستحق الحياة نيابة عمن لا يستحق إلا الموت .... لذلك ألقت باللوم على الشهيد البطل الذي أنهى حياته من أجل قضية بدأت فصولها التاريخية بخيانة عربية ، حيث كان أولى به وأنفع له وهو ابن الطبقة الشعبية الكادحة ، أن ينهي خدمته الوطنية ويشق طريقه ويواصل رحلة كفاحه بعد وفاة والده ويهتم بمستقبله ويرعى والدته ويشد أزر أخوته . ذلك لأن هذه الأصوات التي تغرد خارج السرب .. تنظر للقضية الفلسطينية نظرة تاريخية من زاوية مختلفة تماما عن تلك الزاوية التي تنظر منها الغالبية العظمى من المصريين ... حيث تعتبر هذه القضية مؤامرة دولية ضد الأمة المصرية شارك فيها بعض الحكام الخونة من بني يعرب الذين لا يفهمون إلا لغة القوة .. وتسيطر على تفكيرهم ثقافة الغدر والمكيدة والنهب والسلب والإغارة، حيث باعوا فلسطين في بداية القرن الماضي لبريطانيا العظمى نظير تمكينهم من السلطة ... ولم يكتفوا ببيع فلسطين بل قاموا لاحقا بارتكاب أبشع جريمة عرفها التاريخ الحديث ..... حيث دفعوا إسرائيل دفعا إلى احتلال سيناء لتوريط مصر في صراع مسلح مع العدو الصهيوني لعقود طويلة لكبح جماح المد القومي كي تنعم أنظمتهم بالاستقرار والديمومة ....... حيث كانت مصر الثورة والجمهورية والزعامة في تلك الحقبة –من وجهة نظر أولئك الخونة– تمثل خطرا كبيرا واقعا عليهم لا محالة .. ما لم يتم تحجيم دورها وتعطيل مسيرتها والنيل من حكامها ومن ثم إغراق شعبها في المشاكل والأزمات حتى إذا خرج من أزمة وجد نفسه غارقا حتى أذنيه في أزمة جديدة .. ونجح أولئك الخونة –للأسف الشديد– في تنفيذ مخططاتهم الدنيئة بدرجة كبيرة . الملاحظ هنا أن أصحاب هذه الأصوات على قدر كبير من الوعي والثقافة والمتابعة .. وأن معظمهم يقيم بشكل دائم في بلاد المهجر (أمريكا ودول أوروبا وغيرها من الدول المتقدمة) وربما كان لإقامتهم بصفة دائمة في تلك البلاد البعيدة وما يلاقونه فيها من بغض وكراهية من بعض العرب .. وخصوصا الفلسطينيين (أحفاد شعوب البحر) الذين يكنون للمصريين روحا عدائية قديمة ممزوجة بالخسة والغدر والخيانة .... ولا شك أن هذا الحقد الدفين كان له أثر كبير على أصحاب هذه الأصوات غير مفاهيمهم الحياتية وبدل قناعاتهم الشخصية وترك فيهم شعورا بالخيبة والصدمة والمرارة .

بداية الصفحة